ترتيب نزول القرآن وانتشاره

كيف نزلت الآيات؟
لم تنزل سور القرآن وآياته دفعة واحدة. وبالاضافة إلى اتضاح الموضوع من التاريخ الذي يشهد بالمنزول طيلة ثلاث وعشرين سنة، فان الآيات نفسها شاهدة على ذلك، قال تعالى:﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً1.

وفي القرآن الناسخ والمنسوخ بلا شك، وفيه أيضا آيات تدل على قصص وأحداث لايمكن جمعها في زمن واحد لنذهب إلى وحدة زمن النزول.

والآيات والسور القرآنية لم تنزل قطعا على الترتيب الذي نقرأه في القرآن اليوم، بأن تكون أولا سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة آل عمران ثم سورة النساء وهكذا.. لأنه بالاضافة الى الشواهد التاريخية على ذلك فان مضامين الآيات نفسها تشهد عليه، لأن بعض السور والآيات لها مضامين تناسب اوائل زمن البعثة وهي واقعة في أواخر القرآن كسورة العلق والنون، وبعضها تناسب ما بعد الهجرة وأواخر عصر الرسول وهي واقعة في أواخر القرآن كسورة البقرة وآل عمران والنساء والانفال والتوبة.

ان اختلاف مضامين السور والآيات وارتباطها الكامل بالاحداث والحوادث التي وقعت طيلة ايام الدعوة، يفرض علينا القول بأن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة عصر الدعوة النبوية.

فمثلا الآيات التي تدعو المشركين إلى الاسلام ونبذ عبادة الأوثان تناسب مع عصر قبل هجرة الرسول من مكة حيث ابتلي الرسول بالوثنيين. وأما آيات القتال وآيات الأحكام فقد نزلت في المدينة المنورة حيث أخذ الاسلام ينتشر وأصبحت المدينة تشكل حكومة اسلامية كبرى.

بعد البحث السابق
بناء على البحث السابق تنقسم الآيات والسور القرآنية إلى أقسام حسب اختلاف محل النزول وزمانه وأسبابه وشروطه وهي:
1- بعض السور والآيات مكية وبعضها مدنية، فان ما نزل قبل هجرة الرسول من مكة يعتبر مكيا، وهو القسم الاكبر من السور وعلى الأخص السور القصيرة، ومانزل بعد هجرة الرسول يسمى مدنيا ولو كان نزولها خارج المدنية وحتى لو كان في مكة نفسها.
2- بعض السور والآيات نزلت في السفر وبعضها في الحضر، وهكذا تنقسم إلى مانزل بالليل أو بالنهار، أو مانزل في الحرب أو في السلم، أو ما نزل في الأرض أو في السماء، أو ما نزل بين الناس أو في حال الانفراد. وسنبحث عن فائد معرفة هذه الأقسام في فصل “أسباب النزول”.
3- نزلت بعض السور مكررا كما يقال في سورة الفاتحة حيث نزلت في مكة والمدينة، كما أن بعض الآيات نزلت مكررا كآية ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ2 حيث كررت في سورة الرحمن ثلاثون مرة، وآية﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ3 حيث كررت في سورة الشعراء ثمان مرات. وقد تكررت بعض الآيات في اكثر من سورة واحدة كآية ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين4 حيث كررت في ست سور مختلفة.
وهكذا نجد جملة خاصة هي آية كاملة في مكان وجزء آية في مكان آخر، نحو ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُفحصي في أول سورة آل عمران آية كاملة، وفي سورة البقرة جزء من آية الكرسي.

ولكن مع هذا كله أكثر السور والآيات نزلت مرة واحدة فقط.

وعلة هذا الاختلاف هي اختلاف مايقتضيه البيان، ففي موضع يقتضي تكرار الجملة للتنبيه مثلا، وفي موضع لايقتضي ذلك.

ويشبه هذا الاختلاف الاختلاف الموجود بين السور والآيات في الطول والقصر، فالى جانب سورة الكوثر أقصر السور نجد سورة البقرة أطولها، كما نرى آية “مدهامتان” أقصر آية إلى جانب آية الدين وهي الآية 282 من سورة البقرة أطول آية في القرآن.

كل هذه الاختلافات لمقتضيات بيانية، وربما نجدها في آيتين متصلتين أيضا، كالآيتين 20 و21 من سورة المدثر مثلا، فان الأولى جملة واحدة والثانية أكثر من خمس عشرة جملة.

ومن وجوه الاختلاف أيضا ما نجده عند المقارنة بين السور والآيات في الايجاز والاطناب، كما يتبين ذلك عند مقابلة أمثال سورة الفجر وسورة الليل بأمثال سورة البقرة والمائدة، والغالب في السور المكية الايجاز كما أن الغالب في السور المدنية الاطناب.

ومن هذا القبيل مايقال بأن أول مانزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو سورة العلق او خمس آيات الأولى منها بالقياس إلى آخر ما نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قوله تعالى:﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ5.

*القرآن في الاسلام، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، ص119-123.


1- الاسراء: 106
2- الرحمن:13
3- الشعراء:8-9
4- يونس:48
5- البقرة:281.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *