لقد قرر القرآن الكريم لتكليم الله عبده ثلاثة طرق1
الأول: أن يكلمه الله وحيا، أي إلهاما وإلقاء في القلب.
الثاني: أن يكلمه من وراء حجاب.
الثالث: أن يكلمه بواسطة ملك، وذلك بأن يرسل رسولا فيوحي بإذنه.
والذي نريد أن نبحث فيه هنا هو: كيفية نزول القرآن، وإيصاله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله، وبأي من الطرق المتقدمة كان ذلك ؟ إن الوجوه والاحتمالات بملاحظة الطرق الثلاثة الآنفة الذكر كثيرة، لكن الذي نختاره هو أن جميع القرآن قد أنزل على محمد صلى الله عليه وآله بواسطة رسول ألقاه إليه، وهو جبرائيل.
وتدل على ذلك آيات، منها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾2.
ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾3.
ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾4.
وقبل بيان ما نحن بصدده لا بأس بالإشارة إلى نقطتين:
الروح الأمين ليس هو الله
الأولى: أن من الواضح أن المراد بالروح الأمين في الآيات الأول ليس هو الله عز وجل، وذلك بقرينة الآية الثانية التي تقول: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ﴾ حيث إنها تدل على أن روح القدس والروح الأمين هو الواسطة بين الرب وبين عبده الرسول صلى الله عليه وآله فلا يعقل أن يكون هو نفس الله عز وجل.
روح القدس هو جبرئيل
الثانية: أن الروح الأمين أو روح القدس في الآيات الأول يراد به جبرئيل عليه السلام وذلك بقرينة الآية الأخيرة التي تقول: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾.
فإنها صريحة في أن منزل القرآن من الله تعالى على قلب محمد صلى الله عليه وآله هو جبرئيل، فلو كان المراد بالروح الأمين أو روح القدس غير جبرئيل لوقعت المنافاة بين الآيات.
جبرئيل نزل بجميع القرآن
إذا تمهد هذا قلنا: إنه يظهر من هذه الآيات المذكورة أن جبرئيل قد نزل جميع القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وآله لا بعضه، وذلك لأن الضمائر الواردة في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ و﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ و﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس﴾ لا يرتاب أحد في ظهورها في القرآن الشريف الكائن بين الدفتين والكتاب الذي هو معجزة محمد صلى الله عليه وآله الخالدة.
ومما يشهد ويؤيد هذا الظهور المشار إليه هو تلك الآيات الكثيرة التالية لقوله تعالى: “وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ” وهذه الآيات هي: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ…وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾5.
فإن من تأمل في هذه الآيات يقطع بأنها تتحدث عن القرآن كله وهو ما بين الدفتين، وأن الضمائر الموجودة فيها يراد بها الدلالة عليه كله لا على بعضه.
الآيات الدالة على وساطة جبرئيل
ومن الآيات الدالة على ما نحن بصدده أيضا قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾6.
أي أن القرآن الذي يقرأه عليكم محمد صلى الله عليه وآله ليس هو من عند نفسه، وإنما هو قول رسول كريم، وهو جبرائيل، وقد تلقاه محمد منه.
المراد بالرسول الكريم
ويدلنا على أن المراد بالرسول الكريم في الآية الشريفة هو جبرائيل ما عن علي بن إبراهيم بسند صحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وفيه:…فقلت لجبرائيل – وهو بالمكان الذي وصفه الله ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ -: ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له: يا مالك، أر محمدا النار، فكشف عنها غطاءها، وفتح بابا منها…إلى آخر الحديث7.
إذ يستفاد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله قد قرر أن كلمة ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ الواردة في هذه الآية إنما هي وصف من الله تعالى لجبرائيل عليه السلام، وقد تجلت أمانة جبرائيل عليه السلام في أنه كان هو المؤتمن على القرآن، وإيصاله إلى محمد صلى الله عليه وآله، كما وظهر أنه مطاع من حيث إنه أمر مالكا، فامتثل.
ومما يؤيد ذلك أيضاً ما ورد في أدعية زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام – على ما في الصحيفة السجادية – عند صلواته على كل ملك مقرب: وجبرائيل الأمين على وحيك المطاع في أهل سماواتك، المكين لديك المقرب عندك…الخ.
كما أن الآيات الواردة في أول سورة النجم وهي قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى…﴾ شاهد آخر على أن المراد بقوله تعالى: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ هو جبرائيل عليه السلام.
قال في مجمع البيان – وهو يفسر آيات سورة النجم -: يعني جبرائيل القوي في نفسه وخلقته، عن ابن عباس والربيع وقتادة، وعن الكلبي أنه قال: ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود
فرفعها إلى السماء ثم قلبها، ومن شدته صيحته لقوم ثمود حتى هلكوا.
بل إن هذه الآيات – أعني آيات سورة النجم – ليس فقط تصلح دليلاً على أن المراد بالرسول ذي القوة المكين هو جبرائيل، بل هي أيضا دليل آخر على ما نحن فيه، إذ أنها تدل على أن النبي صلى الله عليهوآله لا يتكلم بشئ – قرآنا كان أو غيره مما يرتبط برسالته – إلا ويكون ذلك الشئ وحيا، علمه إياه شديد القوى، الذي هو جبرائيل، وهذا هو نفس ما نحن بصدد إثباته.
الأقوال: هذا، ويتضح بعد كل ما تقدم أن القرآن كله قد نزل على محمد صلى الله عليه وآله بواسطة جبرائيل عليه السلام.
ويبدو أن أهل السنة أيضا لا يمانعون في ذلك فقد رووا ذلك عن ابن عباس بأسانيد صرحوا بصحتها.
قال السيوطي في الإتقان: وعن الحاكم وابن أبي شيبة من طريق حسان بن حريث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبرائيل ينزل على النبي صلى الله عليه وآله. أسانيدها كلها صحيحة8.
توهم ودفع
وأخيراً، فلعلنا لا نرى مبرراً لتوهم أن يكون ما قدمناه يخالف وينافي قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾9 ونحو ذلك من الآيات، التي نسب فيها التنزيل إلى الله لا إلى جبرائيل.
وذلك لأن الفعل كما يصح إسناده إلى المباشر المختار كذلك يصح نسبته وإسناده إلى السبب، فالوجه في إسناد الفعل إلى الله تعالى هو أنه سبب، وإلى جبرائيل هو أنه المباشر المختار.
وإلا فإن وساطة جبرائيل في الجملة مما لا ريب فيه، فإسناد تنزيل جميع القرآن إلى الله تعالى لا يصح على إطلاقه أيضاً.
ومن ذلك يعلم أن الوجه في نسبة تنزيل القرآن تارة إلى الله تعالى وأخرى إلى جبرائيل عليه السلام هو ما ذكرنا.
مناقشة
هذا، ولابد هنا من الإشارة إلى ما ربما يقال من أنه لم لا يلتزم بالتبعيض، بمعنى وساطة جبرئيل في بعض آيات القرآن لا في جميعها ؟ ولكن ذلك لا يمكن الالتزام به، حيث إنه لا دليل عليه ولا شاهد له، سوى ما يتوهم من الأخبار الدالة على أن نزول الوحي كان على نحوين:
أحدهما: ما كان جبرائيل واسطة فيه بين النبي صلى الله عليه وآله وبين الله تعالى.
والآخر: ما كان بلا واسطة شئ أصلا.
فمن هذه الأخبار ما رواه في البحار عن المحاسن بسند صحيح عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أتاه الوحي من الله وبينهما جبرئيل يقول: هو ذا جبرائيل، وقال لي جبرائيل، وإذا أتاه الوحي وليس بينهما جبرئيل تصيبه تلك السبتة ويغشاه لثقل الوحي عليه من الله عز اسمه10.
ولكن هذا الحديث لا يكفي لإثبات ما يراد إثباته هنا، وذلك لأنه في صدد بيان أن الوحي كان على نحوين: أحدهما بواسطة جبرائيل، والآخر بدونه.
وليس في صدد بيان أن الوحي القرآني من أي من هذين النحوين هو أو من كليهما، ولا دلالة له على شئ من ذلك.
وحينئذ فيحتمل أن يكون الوحي القرآني مما توسط به جبرائيل.
وأما ما لم يتوسط فيه جبرائيل فهو الوحي الذي جاءه صلى الله عليه وآله في الموضوعات أو في غير القرآن المجيد، مما يعبر عنه ب “الأحاديث القدسية”.
وهذا الاحتمال بعد أن عضده الدليل وأيدته الشواهد يكون هو المتعين، ويخرج عن كونه احتمالا إلى كونه من الأمور المعتبرة والثابتة.
ولابد لنا أخيراً من الإشارة إلى أنه قد روي في البحار بعد هذا الحديث مباشرة حديث آخر يرتبط فيما نحن فيه، وهو: عن العياشي عن عيسى بن عبد الله عن جده عن علي عليه السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بآخره، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، نسخت ما قبلها، ولم ينسخها شئ، فلقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليها الوحي، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض، وأغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وضع يده على ذؤابة منبه بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول الله صلى الله عليه وآله فعملنا.
ورواه أيضا الأمين الطبرسي في تفسير سورة المائدة عن العياشي مع إختلاف يسير.
ولكن هذا الحديث لا يدل بنفسه على أن جبرئيل ليس واسطة بين الله والنبي حين نزول سورة المائدة، إذ لعلها قد نزلت بواسطة جبرائيل أيضاً. اللهم إلا أن نستظهر عدم وساطة جبرائيل فيها بمعونة غيرها من الروايات، كأن نستظهر ذلك من عروض ما يشبه الإغماء العارض للنبي صلى الله عليه وآله والثقل، حيث إن الأخبار التي سبق بعضها تدل على أن الوحي إذا نزل بواسطة جبرائيل لم يحصل له ثقل ولا ما يشبه الإغماء، وإذا كان بدونه تصيبه صلى الله عليه وآله تلك السبتة.
هذا بالنسبة إلى الدلالة في هذه الرواية مع الإغماض عن أمور أخرى يطول بذكرها المقام.
وأما بالنسبة إلى سندها فليس من القوة بحيث يثبت هذا المطلب المخالف لظاهر آيات كثيرة تقدمت، فإن الرواة الذين هم بين العياشي وعيسى بن عبد الله لم يصرح بأسمائهم، حتى نعرف أنهم واجدون لشروط اعتبار أقوالهم أم لا، وهذا يكفي وحده وهنا في هذه الرواية، وإسقاطها عن درجة الاعتبار.
وهكذا، فإن النتيجة تكون: أن جبرائيل كان واسطة في نزول تمام القرآن على النبي صلى الله عليه وآله.
فواتح السور
قبل البدء بالبحث لابد من ذكر جدول يشتمل على السور المتضمنة للحروف المقطعة، ويذكر فيه أيضاً موضوع المكي والمدني، والإشارة كذلك إلى هذه الحروف، وذكر أول الآيات النازلة بعد تلك الحروف، وسيتضح إن شاء الله تعالى ما سيشتمل عليه هذا الجدول من فوائد.
*بحوث في تاريخ القرآن وعلومه، آية الله السيد أبو الفضل مير محمدي الزرندي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، ص9-16.
1- وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، الشورى:51.
2- الشعراء:192-194.
3-النحل:102-103.
4- البقرة:97.
5- الشعراء:193-212.
6- التكوير:18 -22.
7- راجع البرهان في تفسير القرآن: عند كلامه حول سورة التكوير.
8- الإتقان للسيوطي: ج 1 ص 41.
9- النحل:89.
10- بحار الأنوار: ج 18 ص 271 الطبعة الجديدة.