البحث يقع في النقاط التالية
1- فائدة هذا البحث.
2- المراد من المكي والمدني.
3- الضوابط في تعيين المكي والمدني.
4- هل هناك آيات مدنية في سور مكية أو بالعكس؟
5- المأثور في تمييز المكي والمدني.
6- نظرة في المصاحف المطبوعة اليوم.
فائدة هذا البحث
ويمكن تلخيصها بالنقاط التالية
الأولى: المعروف بين المسلمين هو أن في كتاب الله ناسخاً ومنسوخاً، ولقد قال بعض المحققين دام ظله: إن نسخ الحكم دون التلاوة هو المشهور بين العلماء والمفسرين1.
ويشهد لهذا قوله تعالى ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾2.
وما رواه سليم بن قيس عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: إن أمر النبي مثل القرآن، منه ناسخ ومنسوخ وخاص وعام 3.
وحيث إنه لابد من تأخر الناسخ عن المنسوخ فإن ذلك يتوقف إلى حد بعيد على بحثنا هذا، ومعرفة أن أي الآيتين مكية متقدمة والاخرى مدنية متأخرة لتكون هذه ناسخة لتلك، فيما لو لم يمكن الجمع بينهما.
الثانية: قد يحتاج ظهور الكلام – أي كلام – وضعاً أو عرفاً إلى معرفة القرائن المفهمة، كالعلم بمكان الصدور وزمانه، ومعرفة المخاطب – بالفتح – بهذا الكلام، والجو الذي ورد فيه.
فإذا عرف كل ذلك ينعقد للكلام ظهور في المعنى المقصود منه.
ولعل القرآن الكريم لا يشذ عن هذه الضابطة، فكثيرا ما يكون العلم بكون الآية مكية أو مدنية، وبأنها نزلت قبل الهجرة أو بعدها، قرينة مبينة للمعنى المقصود، ويكون ذلك معينا للمفسر على فهم المراد من كلام الله تعالى.
ولعل ما قاله النيسابوري في كتابه “التنبيه على فضل علوم القرآن” ناظر إلى ما قلناه، قال رحمه الله: أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة والمدينة – إلى أن قال: – فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ولم يميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله4.
الثالثة: معرفة تواريخ الوقائع والأحكام على وجه الإجمال، مما يفيد في معرفة صحة وفساد بعض المنقولات غير المسؤولة من بعض المؤرخين المأجورين أو المغفلين أو المتعصبين. فمعرفة المكي والمدني تدل على أن ما ذكر في المكي كان قد وقع قبل الهجرة، وما في المدني وقع بعدها.
الرابعة: قال الزرقاني: ومن فوائده أيضا الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف، ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام، حتى ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها، وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر – إلى أن قال: – فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدا يمسه ويعبث به5.
المراد من المكي والمدني
قال في الإتقان: اعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة، أشهرها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أو نزل بالمدينة – إلى أن قال: –
الثاني: أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة – إلى أن قال: –
الثالث: أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة6.
وأما نحن فنختار الاصطلاح الأول ونسير في بحثنا على وفقه، لأنه مضافاً إلى شهرته هو تعريف جامع، لا يشذ عنه أي من الموارد، وذلك لأن التقسيم على هذا الاصطلاح يكون من قبيل الحصر العقلي الدائر بين النفي والإثبات دون أن يكون هناك واسطة، بخلاف التعريفين الثاني والثالث، فإنهما غير شاملين لبعض السور. فسورة الفتح مثلا، فإنها بتمامها أو بعضها نزلت بين مكة والمدينة عند رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية، فالاصطلاح الثاني إذا لا يشملها، لأنها لم تنزل في مكة ولا في المدينة.
وأما على الاصطلاح الثالث فلأنها غير مصدرة بـ “يا أيها الناس” لتكون مكية ولا بـ “يا أيها الذين آمنوا” لتكون مدنية، وأما على المختار فهي مدنية لنزولها بعد الهجرة.
ضوابط تعيين المكي والمدني
ووجهات النظر في ذلك متعددة، نذكر منها: الأولى: قال القاضي أبو بكر في الانتصار: إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك قول، لأنه لم يؤمر، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة7.
ولقد أحسن الزرقاني في المقام حيث قال: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان المكي والمدني، وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان، كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل، ويشهدون مكانه وزمانه، وأسباب نزوله عيانا، وليس بعد العيان بيان8.
ثم إنه ربما نجد في كتب الإمامية بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام – وإن كانت قليلة وربما ضعيفة سندا – يستفاد منها أو نص فيها على أن هذه السورة أو الآية مكية أو مدنية، مثل:
1- ما رواه العياشي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: نزلت سورة المائدة قبل أن يقبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهرين أو ثلاثة9.
2- وما رواه في الكافي عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام وفيه:…ثم بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة عشر سنين، فلم يمت في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله إلا أدخله الله الجنة بإقراره، وهو إيمان التصديق – إلى أن قال عليه السلام: – وتصديق ذلك: أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة ﴿وَقَضَىرَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ- إلى قوله تعالى: -خَبِيرًا بَصِيرًا﴾10.
ثم بعد أن عدد عليه السلام بعض ما أنزله الله في مكة قال: فلما أذن الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج من مكة إلى المدينة بني الإسلام على خمس – إلى أن قال: – وأنزل في بيان القاتل…وعدد بعض ما أنزل في المدينة، ثم قال: وأنزل بالمدينة ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً﴾11 – إلى أن قال: – ونزل بالمدينة ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ- إلى قوله تعالى: -فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾12 – إلى أن قال عليه السلام: – وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء…الحديث13.
3- ما رواه الأمين الطبرسي عن علي بن إبراهيم أن أباه حدثه عن علي بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عند فاطمة شعير، فجعلوه عصيدة، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين، فقال المسكين: رحمكم الله، فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثها…14.
وفي هذا دلالة على أن السورة مدنية، كما نقل عن ابن عباس.
الثانية: ما رواه السيوطي عن الحاكم في مستدركه، والبيهقي في الدلائل، والبزاز في مسنده من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله (والظاهر أنه ابن مسعود) قال: ما كان “يا أيها الذين آمنوا” انزل بالمدينة.
وما كان “يا أيها الناس” فبمكة.
وروي ذلك عن علقمة مرسلا أيضاً.
وأخرج عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن “يا أيها الناس، يا بني آدم” فإنه مكي، وما كان “يا أيها الذين آمنوا” فإنه مدني15.
ولكن هذا الكلام لا يصح على إطلاقه لأمور:
أولاً: لقد راجعت المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم16 فرأيت أن كل ما كان فيه “يا أيها الناس” قد كتب في قباله أنه مكي، وكل ما كان فيه “يا أيها الذين آمنوا” قد كتب في قباله أنه مدني، إلا في موارد وهي الآيات التالية:
1- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾17.
2- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم﴾18.
3- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ﴾19.
4- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ﴾20.
5- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾21.
فإن هذه الآيات جميعاً قد كتب في قبالها أنها مدنية، ووقعت في السور المدنية، ولكنهم لم يستثنوها في المصحف الأميري. ولكن ما كان فيه “يا بني آدم” قد كتب في المعجم المفهرس أنه مكي.
وثانياًَ: أن هذه الضابطة على فرض صحتها غير مطردة في جميع القرآن، فهي أخص من المدعى، فإنها لا تبين لنا حال الآيات – وهي كثيرة – التي ليس فيها “يا أيها الناس” ولا “يا بني آدم” ولا “يا أيها الذين آمنوا” فنحتاج في تمييزها إلى ضوابط وعلامات أخرى.
وثالثاً: أن كل تلك العلامات المذكورة إنما جعلت علامة بعد أن فهمنا المكي والمدني من الآثار المنقولة عن الأصحاب كابن عباس وغيره، وبعبارة أخرى: بعد أن ميزنا المكي عن المدني من السور ولاحظناها فوجدنا المكي منها يشتمل على “يا أيها الناس، ويا بني آدم” وليس فيه “يا أيها الذين آمنوا” والمدني بالعكس.
وعليه فمعرفة أن المكي فيه هذه الجملة دون تلك والمدني بعكسه متوقف على النقل والآثار، لا أننا إذا رأينا كلمة “يا بني آدم” مثلاً عرفنا أن السورة مكية مباشرة.
ولعل هذا القائل تخيل أن قلة المسلمين في مكة لا تناسب توجيه الخطاب إليهم، بل المناسب الخطاب للأكثر.
ولكن كثرتهم في المدينة أوجبت صحة توجيه الخطاب إليهم بـ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ آمَنُوا﴾.
ولكن هذا مجرد تخيل وحدس لا يوجب الاطمئنان، بل الاطمئنان حاصل بخلافه، وذلك لأن خطابات القرآن ليس على نحو القضية الخارجية، وإنما هي على نحو القضية الحقيقية التي لا يفرق فيها بين كثرة الموجودين وقلتهم، بل كل من دخل تحت عنوان الخطاب، ولو بعد سنين يكون مشمولا له.
نعم، ربما يقال: إن الخطاب المشتمل على بعض الأحكام – كالجهاد ونحوه – مما يحتاج إلى القدرة والتمكن المفقود عند مسلمي مكة لا يكون توجيهه إليهم مناسبا.
الثالثة: ما قيل من أن فيه أحكاما فرعية فهو مدني.
وهذه العلامة وإن كانت صادقة بنحو جزئي إلا أنها أيضاً لا يمكن الاعتماد عليها لأنها أخص من المدعى، إذ أن ثبوت أن هذه الآية مدنية لا يلزمه ثبوت كون تلك مدنية.
هذا بالإضافة إلى أننا نجد في السور المكية أحكاماً فرعية كالسور المدنية وإن كانت بالنسبة إليها قليلة.
ففي قوله تعالى ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ﴾22.
وقوله سبحانه ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ﴾23.
وقوله عز من قائل ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾24.
وقوله عز وجل ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ﴾25.
وقوله عز وجل ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾26.
وقوله ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾27.
نجد أن كل هذه الآيات المتضمنة لأحكام فرعية قد وردت في سورة الأنعام وهي مكية.
كما أن قوله تعالى ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾28 وقوله ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾29 قد ورد في سورة الأعراف وهي مكية.
وأيضا فإن قوله سبحانه ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾30 قد ورد في سورة إبراهيم وهي مكية.
وورد في سورة الإسراء المكية قوله عز وجل ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾31.
وفي سورة المؤمنون المكية قوله ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾32.
وأمر الناس بالسجود في سورة النجم33 وهي مكية.
وأما سوى ذلك من السور المكية فلم أجد فيه ما يدل على أحكام فرعية في هذه العجالة.
الرابعة: ما قيل من أن ما فيه كلمة “كلا” فهو مكي.
وهذا حق، كما يظهر لمن لاحظ المعجم المفهرس، فإنه قد كتب أمام كل الآيات المتضمنة لكلمة “كلا” أنها مكية.
ولكن قد ذكرنا أن ذلك لم يعلم إلا بعد تمييز المكي عن المدني بالنقل عن ابن عباس وغيره، ولولا ذلك لم يستطع أحد أن يفهم، ولا جاز له أن يميز بين المكي والمدني بوجود “كلا” وعدم وجودها.
هذا عدا عن أن ذلك لو صح كونه مميزاً فإنما يقتضي تعين بعض الآيات، ويبقى الباقي بحاجة إلى مميز آخر.
وعليه، فنستنتج من كل ما تقدم إلى أن القول الحق هو أن تمييز المكي عن المدني يحتاج إلى الأثر والنقل، وأن ما سواه مما ذكر لا يصلح أن يكون ضابطا ومميزا لذلك.
هل هناك آيات مدنية في سورة مكية أو بالعكس؟
بقي أن نشير هنا إلى أن من البعيد جداً وجود آيات مكية في سورة مدنية، وكذلك العكس، بناء على الاصطلاح المشهور في المكي والمدني.
ولست أدري لماذا إذا نزلت آية في مكة لسبب اقتضى نزولها؟! لماذا لا تجعل هذه الآية جزء لسورة مكية نزلت في ظروف مشابهة؟! ولماذا ينتظر الشهور والأعوام حتى يسافر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ثم تجعل حينئذ جزء لسورة مدنية؟ ولماذا يصرف النظر عن الجمع بين ما نزل في عصر واحد ومحيط واحد ومكان واحد إلى الخلط والتشريك بين آيات نزلت في ظروف وأجواء مختلفة؟!
هذا بالإضافة إلى أن القائل بذلك – أي بوجود آيات مدنية في سور مكية وبالعكس – لم يتمسك لإثبات وجهة نظره بشئ مأثور، ولا وصل إليه دليل لا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا من الأئمة عليهم السلام، بل إنما استند إلى مجرد اجتهادات ظنية مما يشجعنا على القول بأنه لا دليل على هذا الاستثناء ولا حجة عليه.
ومن الموارد التي قيل فيها بوجود آيات مدنية في سورة مكية سورة الرعد، فإنها على ما نقله مجاهد عن ابن عباس مكية كلها، ولكن استثنى الكلبي ومقاتل الآية الأخيرة منها، وهي قوله تعالى ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾34 حيث إنهم يقولون إن هذه الآية قد نزلت في عبد الله بن سلام. وهو إنما أسلم بعد الهجرة فلا يمكن أن تكون هذه – الآية المقصود بها عبد الله بن سلام – مكية.
ولكن الحقيقة أن هذا توهم محض، فإنه من الممكن جداً أن يكون المقصود بالآية غير عبد الله بن سلام، ممن أسلم في مكة المكرمة وتكون السورة كلها مكية.
قال الشيخ عبد المتعال الصعيدي: هذا وأمثاله مما يتخذ منه أعداء الإسلام مطعنا في القرآن، ويقولون: إن السورة مكية، ولا يمكن أن يراد من قوله ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ عبد الله بن سلام، فإذا قلنا هذه الآية مدنية لم يكن كافيا لإقناعهم – ثم قال: – ولعل المراد منه ورقة بن نوفل من أهل مكة، أو غيره، فتكون السورة كلها مكية35.
وفي الدر المنثور عن سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس أن سعيد بن جبير أنكر نزول هذه الآية في ابن سلام.
وقال الشعبي: ما نزل في ابن سلام شئ من القرآن، وثمة روايات أخرى أخرجها في الدر المنثور تبعد نزول هذه الآية في عبد الله بن سلام المذكور36.
المأثور في تمييز المكي والمدني
قد تقدم بعض ما نقل عن أئمتنا في بيان بعض الموارد، وننقل هنا ما نقل عن بعض الأصحاب، فنقول: روى السيوطي في الإتقان عن فضائل القرآن لابن الضريس بسند ذكره عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء، وكان أول ما انزل من القرآن “اقرأ باسم ربك” ثم “ن” ثم “يا أيها المزمل” ثم “يا أيها المدثر” ثم “تبت يدا أبي لهب” ثم “إذا الشمس كورت” ثم “سبح اسم ربك الأعلى” ثم “والليل إذا يغشى” ثم “والفجر” ثم “والضحى” ثم “ألم نشرح” ثم “والعصر” ثم “والعاديات” ثم “إنا أعطيناك” ثم “ألهاكم التكاثر” ثم “أرأيت الذي يكذب” ثم “قل يا أيها الكافرون” ثم “ألم تر كيف فعل ربك” ثم “قل أعوذ برب الفلق” ثم “قل أعوذ برب الناس” ثم “قل هو الله أحد” ثم “والنجم” ثم “عبس” ثم “إنا أنزلناه في ليلة القدر” ثم “والشمس وضحاها” ثم “والسماء ذات البروج” ثم “والتين” ثم “لإيلاف قريش” ثم “القارعة” ثم “لا أقسم بيوم القيامة” ثم “ويل لكل همزة” ثم “والمرسلات” ثم “ق” ثم “لا أقسم بهذا البلد” ثم “والسماء والطارق” ثم “اقتربت الساعة” ثم “ص” ثم “الأعراف” ثم “قل أوحي” ثم “يس” ثم “الفرقان” ثم “الملائكة” ثم “كهيعص” ثم “طه” ثم “الواقعة” ثم “طسم الشعراء” ثم “طس” ثم “القصص” ثم “بني إسرائيل” ثم “يونس” ثم “هود” ثم “يوسف” ثم “الحجر” ثم “الأنعام” ثم “الصافات” ثم “لقمان” ثم “سبأ” ثم “الزمر” ثم “حم” ثم “المؤمن” ثم “حم السجدة” ثم “حم عسق” ثم “حم الزخرف” ثم “الدخان” ثم “الجاثية” ثم “الأحقاف” ثم “الذاريات” ثم “الغاشية” ثم “الكهف” ثم “النحل” ثم “إنا أرسلنا نوحاً” ثم “سورة إبراهيم” ثم “الأنبياء” ثم “المؤمنون” ثم “تنزيل السجدة” ثم “الطور” ثم “تبارك الملك” ثم “الحاقة” ثم “سأل” ثم “عم يتساءلون” ثم “النازعات” ثم “إذا السماء انفطرت” ثم “إذا السماء انشقت” ثم “الروم” ثم “العنكبوت” ثم “ويل للمطففين”. فهذا ما أنزل الله بمكة.
ثم أنزل بالمدينة “سورة البقرة” ثم “الأنفال” ثم “آل عمران” ثم “الأحزاب” ثم “الممتحنة” ثم “النساء” ثم “إذا زلزلت” ثم “الحديد” ثم “القتال” ثم “الرعد” ثم “الرحمن” ثم “الإنسان” ثم “الطلاق” ثم “لم يكن” ثم “الحشر” ثم “إذا جاء نصر الله” ثم “النور” ثم “الحج” ثم “المنافقون” ثم “المجادلة” ثم “الحجرات” ثم “التحريم” ثم “الجمعة” ثم “التغابن” ثم “الصف” ثم “الفتح” ثم “المائدة” ثم “براءة”37.
وهذا الحديث كما تراه قد سقطت منه سورة الفاتحة مع أنها أول سورة نزلت بمكة على ما نقل في الإتقان عن الكشاف عن أكثر المفسرين.
ونقل أيضاً عن جابر بن زيد أن أول ما نزل بمكة اقرأ باسم ربك – إلى أن قال: – ثم يا أيها المدثر، ثم الفاتحة…الخ38.
ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أن الأمين الطبرسي قد روى حديث ابن عباس الآنف في مجمع البيان39، لكنه رحمه الله قد اشتبه وعد سورة القمر وسورة اقتربت سورتين، مع أنهما واحدة.
ويمكن ذلك الاشتباه من الناسخ، ويؤيده قوله فيما بعد: وهي خمس وثمانون سورة، فإنه لو فرض تعدد السورة عنده بتعدد الاسمين لصار عدد السور عنده ستا وثمانين سورة، كما أن ابن النديم قد أورد رواية ابن عباس المذكورة في فهرسته، فلتراجع40.
نظرة في المصاحف المطبوعة اليوم
ثم لا يخفى أن المصاحف المطبوعة متفاوتة بالنسبة إلى ما روي عن ابن عباس، فنلاحظ:
1- أن القرآن الذي أعده عبد الودود يوسف وطبع بموافقة دار الإفتاء ووزارة الإعلام السورية بتاريخ 10 / 8 / 1975 قد وافق رواية ابن عباس الآنفة، حتى في عدم استثناء بعض الآيات، فعنون السورة كلها بمكية أو مدنية من دون أن يستثني شيئا.
2- أن المصحف المطبوع في إيران بخط طاهر خوشنويس وقوبل مع القرآن السلطاني41 قد وافق رواية ابن عباس، إلا في موارد هي:
أ- سورة الحمد: فإنها لم ترد في الرواية، ولكن جاء في المصحف السلطاني أنها مكية.
ب- سورة الرحمن: مدنية في الرواية، مكية في السلطاني.
ج- سورة التحريم: مدنية في الرواية، مكية في السلطاني.
د- سورة الناس: مكية في الرواية، مدنية في السلطاني.
3- أن المصحف الذي طبع في القاهرة بخط قدرغه لي وقوبل بالمصحف الأميري والذي أقرته اللجنة المعينة من قبل فؤاد الأول ملك مصر في وقته تحت إشراف مشيخة الأزهر قد وافق رواية ابن عباس، إلا أنه قد استثنى فيه بعض الآيات، مثلا كتبوا في المصحف: سورة البقرة مدنية، إلا آية 281 فمكية، لكنا قلنا: إن هذا الاستثناء لا دليل عليه، إلا رواية عن ابن عباس تقول إنها نزلت بمنى قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواحد وثمانين يوما، ولكنها معارضة بما يدل على خلاف ذلك42.
ولو سلم فقد قلنا: إن المقياس المشهور والمنصور هو تسمية ما نزل قبل الهجرة مكيا، وما نزل بعدها مدنيا، لا ما نزل في مكة والمدينة، كما تقدم، فهي مدنية على هذا القول الأصح.
4- وثمة مصحف مطبوع في تركيا لسنة 1342 ه بإشراف لجنة وهو أيضا لم تستنثن فيه آيات أصلاً.
وهذا لعله هو طريقة أكثر المصاحف المطبوعة كما يظهر لمن لاحظها.
فتحصل: أن 86 سورة معها الفاتحة كلها مكية، و 28 سورة كلها مدنية من دون استثناء.
وأن المراد بالمكي ما أنزله الله قبل الهجرة، وبالمدني ما أنزله الله بعدها، وهو الاصطلاح المعروف والمشهور.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله المنتجبين.
*بحوث في تاريخ القرآن وعلومه، آية الله السيد أبو الفضل ميرمحمدي الزرندي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، ص288-300.
1- تفسير البيان: ص 196.
2- البقرة: 106.
3- كتاب سليم بن قيس: ص 85 طبع النجف.
4- نقله عنه السيوطي في الإتقان: ج 1 ص 8.
5- مناهل العرفان: ج 1 ص 188.
6- الإتقان: ج 1 ص 9.
7- نقله عنه السيوطي في الإتقان: ج 1 ص 9.
8- مناهل العرفان: ج 1 ص 189.
9- تفسير العياشي: أول تفسير سورة المائدة ح 1.
10- الإسراء: 23 – 30.
11- النور: 2.
12- النور: 4 – 5.
13- الكافي: ج 2 ص 28 ح 1.
14- تفسير مجمع البيان: سورة الإنسان.
15- الإتقان: ج 1 ص 17.
16- مؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي ، وهو كتاب جيد في بابه ، وقد سهل الأمر علي ، حيث كتب في قبال كل آية أنها مكية أو مدنية. ولكنه جرى في تعيينه المكي والمدني على وفق المصحف الأميري ، الذي تولت الحكومة المصرية طبعه سنة 1342. وقال صبحي الصالح في كتابه علوم القرآن: ص 100: إن العالم الإسلامي قد تلقى هذه الطبعة (أي الأميرية) بالقبول ، وطبعت ملايين النسخ منه سنوياً.
17- البقرة: 21.
18- النساء: 1.
19- النساء: 170.
20- النساء: 174.
21- الحج: 1.
22- الأنعام: 72.
23- الأنعام: 151.
24- الأنعام: 151.
25- الأنعام: 151.
26- الأنعام: 152.
27- الأنعام: 152.
28- الأعراف: 32.
29- الأعراف: 33.
30- إبراهيم: 31.
31- الإسراء: 32.
32- المؤمنون: 2.
33- في آخر آية منها.
34- الرعد: 43.
35- رسالة الإسلام الصادرة عن دار التقريب في القاهرة: السنة الثانية عشرة ص 361.
36- راجع الدر المنثور: ج 4 ص 69.
37- الإتقان: ج 1 ص 11.
38- الإتقان: ج 1 ص 24 و 25.
39- ج 10 ص 405.
40- الفهرست لابن النديم: ص 45.
41- كتب القرآن السلطاني في عصر السلطان سليم بعد فتحه مصر ، وكان قد استقدم جميع الخطاطين والفنانين والرسامين إلى عاصمته فكتبوه. (راجع التمهيد في علوم القرآن: ج 1 ص 404).
42- الإتقان: ج 2 ص 2 و3.