منابع التفسير في عهد التابعين

كان التلقي في التفسير هوالعنصر الاولي، والاداة المفضلة لفهم كتاب اللّه تعالى، ذلك العهد، اذ كان التابعون يسيرون في اثر الصحابة وكانوا تربيتهم بالذات، فانتهجوا منهجهم بطبيعة الحال غير انهم اخذوا بالتوسع والتفتح الى آفاق واسعة الارجاء، حسب توسع رقعة الاسلام ودخول الاقوام في دين اللّه افواجا، ومعهم علومهم وآدابهم وثقافاتهم، كما نبهنا فازداد التبصر والتفتح الى آفاق اوسع، والتطلع الى ارجا ابعد.

ولا شك، انه كلما ازداد علم الرجل و تنوعت ثقافاته و ترامت معارفه، فانه يزداد تبصره ويتوسع تفكيره وتفهمه للامور، مهما كان نمطها، وايا كان نسجها.

وبعد فيمكننا تنويع المصادر التي كان التابعون يعتمدونها لفهم معاني كلام اللّه تعالى وتبيين مقاصده ومراميه،الى الامور التالية:-
اولا: مراجعة الكتاب نفسه، حيث القرائن والدلائل في كلام أي متكلم، خير شهود على كشف مراده والوقوف على مرامه. وهكذا القرآن ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض، كما قال الامام امير المؤمنين.

ثانيا: ملاحظة ما تلقوه من أقوال الصحابة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشان تبيين معاني الكتاب.

حيث الأسئلة حول لفيف من معاني القرآن كانت كثيرة على عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عليه البيان، كما كان عليه السلام و من تلك الاسئلة واجوبتها كانت وفرة وفيرة مدخرة على ايدي الصحابة يؤدونها الى الذين اتبعوهم باحسان.

وقد تقدم حديث مسروق بن الاجدع، ووصفه لعلوم الاصحاب المتلقاة من النبي الكريم.

ثالثا: مراعاة اسباب النزول والمناسبات المستدعية لنزول آية او آيات او سورة ونحوها، حيث كانت في متناولهم القريب، وهم الذين نقلوها الينا فيما نقلوه من الاثار والاخبار.

وحيث كانت الايات النازلة بشانها، ناظرة الى جوانب وخصوصيات تحتضنها تلك الحوادث والمناسبات، فانها بدورها تصبح خير دلائل على رفع كثير من الابهام الوارد في الفاظ تلكم الايات بالذات وكان اصحاب ذلك العهد (عهد التابعين) اما حضروا تلك المشاهد بانفسهم، او بامكانهم الملاقاة مع شهود القضايا، والاخذ منهم مشافهة.

وهذا من اكبر المصادر لرفع الابهام عن وجه كثير من الايات، وكان في متناولهم القريب.

رابعا: مراجعة اللغة في صميمها، ولا سيما اشعار العرب وهي ديوانها ودائرة معارفها، للوقوف على مزايا اللغة واساليب كلام العرب والقرآن نزل على نمطها وعلى نفس نسجها في التعبير والبيان وان كان في اسلوب ارقى وعلى نسج اقوى.

وكان ابن عباس يوصي اصحابه بل يحضهم على مراجعة اشعار العرب للتعرف على غريب القرآن ولقد عدزعيم هذه الناحية من التفسير بالخصوص، حتى لقد قيل بشانه: انه هو الذي ابدع الطريقة اللغوية لتفسيرالقرآن1.

كان يقول: الشعر ديوان العرب، فاذا خفي علينا حرف من القرآن الذي انزله الله بلغة العرب، رجعنا الى ديوانها، فالتمسنا ذلك منه.

وايضا قوله: اذا سالتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فان الشعر ديوان العرب2.

خامسا: انحاء العلوم والمعارف التي تعرف اليها المسلمون، بفضل التوسع في رقعة الاسلام وازدحام وفودالاداب والثقافات المستوردة عليهم، يحملها امم ذووا حضارات عريقة، كانوا يدخلون في دين اللّه افواجا.

وقد اسلفنا ان التوسع في الاطلاع على العلوم والمعارف، مهما كان نمطها، فانه يزيد في قوة الفهم وامكان لمس حقائق الامور، ويرتفع مستوى قدرة الاستنباط بدرجات، لا يبلغها من اعوزه النيل منها بنسبة اعوازه.

وهكذا استفاد التابعون ـ ومن بعدهم ـ بالعلوم والمعارف المستجدة، والمستزادة مع تقادم الايام استفادوا بها في فهم معاني كلام اللّه تعالى وقد﴿أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ3.

سادسا: اعتمادهم على ما فتح اللّه عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب اللّه تعالى، وقد روت لنا كتب التفسير كثيرا من اقوال هؤلاء التابعين في التفسير، قالوها بطريق الراي والنظر والاجتهاد، مما لم يصل الى علمهم شي فيها عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم او عن احد الصحابة فكانوا يعملون النظر فيها، بامعان النظر في دلائل وقرائن كانت تساعدهم على فهم الاية، مما مرت الاشارة الى بعضها، وغير ذلك من ادوات الفهم ووسائل البحث والتنقيب.

الامر الذي ساعد على فتح باب الاجتهاد بشان التفسير، وفي سائر شؤون الشريعة، واستمرت الطريقة المرضية عبر التاريخ وقد نوهنا عنها.

سابعا: استنادهم الى نصوص من كتب العهدين، مما جاء اجماله في القرآن، وتعرضت لتفاصيلها كتب السالفين، مما لم يحتمل فيه التحريف كجوانب من تاريخ انبياء بني اسرائيل وسيرة ملوكهم وما شابه من قصصهم واخبارهم.

وذلك ككثير من قصص ابراهيم الخليل ولوط ويوسف. ففي التوراة ما في القرآن من تفاصيل اخبارهم، سوى ان القرآن جاء بالصحيح المعقول منها، مختزلا، بينما في التوراة صور محرفة ومرفوضة لدى العقل السليم سوى بعض لقطات وخطفات جاءت سليمة، يمكن الاستفادة منها احيانا الامر الذي كان نبهاء الصحابة والتابعين يعنونه بالذات4 دون الاستناد المطلق من غير تحر او تحقيق ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ5.

اما الاخذ من اهل الكتاب، والانصياع لهم في كل ما يسطرون، فهذا كان مما يتحاشاه الصحابة والتابعون، نعم سوى شراذم من غوغاء العوام، او اهل الدغل من الساسة الحاكمة على البلاد.

فالذي ذكر الذهبي، من اعتماد التابعين، في فهم معاني كتاب اللّه تعالى، على ما اخذوه من اهل الكتاب مما جافى كتبهم6 فانه ـ على اطلاقه ـ مرفوض وقد فندنا مزاعم الرجوع الى اهل الكتاب، فيما حسبوه بشان الصحابي الجليل عبد اللّه بن عباس.

*التفسير والمفسرون في ثوبه الثقيب، الشيخ محمد هادي عرفة، من منشورات الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، ط1، ص447-451.


1- المذاهب الاسلامية لتفسير القرآن، ص 69 التفسير والمفسرون، ج1، ص 75.
2- الاتقان، ج1، ص 119.
3- الفرقان:6.
4- وهذا نظير ما وقف عليه المولى ابو الكلام آزاد، بشان “ذي القرنين” من الدلائل في التوراة، انه كورش، الملك الفارسي الذي قام باعادة بنا البيت وتحريره وايراد ابنااسرائيل الذين كان قد اضطهدهم الطاغية بخت نصر ملك بابل يومذاك.
5- الزمر:17.
6- التفسير والمفسرون، ج1، ص 99.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *