التفسير في نشاته الاولى

(في عهد الرسالة)
قال تعالى:﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ1.

ان في القرآن الكريم من اصول معارف الاسلام وشرائع احكامه، الاسس الاولية التي لا غنى لأى مسلم يعيش على هدى القرآن ويستظل بظل الاسلام، ان يراجع دلائله الواضحة ويتلمس حججه اللائحة، وان ابهم عليه شيء فليستطرق ابواب اهل الذكر ممن نزل القرآن في بيوتهم، فيهدوه سواء السبيل .

نعم كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم هوالمرجع الاول لفهم غوامض الايات وحل مشاكله، مدة حياته الكريمة، اذ كان عليه البيان كما كان عليه البلاغ قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ2، فكان دوره صلى الله عليه وآله وسلم دور مرشد ومعين، وكان الناس هم المكلفين بالتفكر في آيات اللّه والتماس حججه .

وقد تصدى النبى صلى الله عليه وآله وسلم لتفصيل ما اجمل في القرآن، وبيان ما ابهم منه اما بيانا في احاديثه الشريفة وسيرته الكريمة، اوتفصيلا جاءفي حل تشريعاته من فرائض وسنن واحكام وآداب، كانت سنته صلى الله عليه وآله وسلم قولا وعملا وتقريراً، كانت كلها بيانا وتفسيرا لمجملات الكتاب العزيز وحل مبهماته في التشريع والتسنين فقد كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “صلوا كما رايتموني اصلي” شرحا وبيانا لما جاء في القرآن، من قوله تعالى:﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ3 ولقوله:﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا4 وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “خذوا عني مناسككم” بيان وتفسير لقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ5، وهكذا فكل ماجا في الشريعة من فروع احكام العبادات والسنن والفرائض، واحكام المعاملات، والانظمة والسياسات، كل ذلك تفصيل لما اجمل في القرآن من تشريع وتكليف .

وهكذا كان الصحابة يستفهمونه كلما تلا عليهم القرآن اواقراهم آية اوآيات، كانوا لا يجوزونه حتى يستعلموا ما فيه من مرام ومقاصد واحكام، ليعملوا بها وياخذوا بمعالمها.

اخرج ابن جرير باسناده عن ابن مسعود، قال: كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن وقال ابو عبد الرحمان السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا، انهم كانوا يستقرئون من النبى صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا اذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، قال: فتعلمنا القرآن والعمل جميعا6.

نعم، ربما كانوا يحتشمون هيبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتحجبهم دون مسائلته، فكانوا يترصدون مجي الاعراب المغتربين عن البلاد، ليسالوه عن مسائل، فيغتنموها فرصة كانوا يترقبونها.

قال علي عليه السلام: وليس كل اصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يساله ويستفهمه، حتى كانوا ليحبون ان يجي الاعرابى او الطارئ فيساله عليه السلام حتى يسمعوا قال: وكان لا يمر من ذلك شي الا سالت عنه وحفظته7.

وهكذا حدث ابوامامة ابن سهل بن حنيف8 قال: كان اصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: ان اللّه ينفعنا بالاعراب ومسائلهم، قال: اقبل اعرابي يوما فقال: يا رسول اللّه، لقد ذكر اللّه في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت ارى ان في الجنة شجرة تؤذي صاحبها السدر، فان لها شوكا فقال رسول اللّه:﴿فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ9 يخضد اللّه شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة، فانها تنبت ثمر، تفتق الثمرة معهاعن اثنين وسبعين لون، ما منها لون يشبه الاخر10.

ومن ثم كان ابن مسعود يقول: واللّه الذي لا اله غيره ما نزلت آية في كتاب اللّه الا وانا اعلم فيم نزلت واين نزلت وهكذا تواتر عن الامام امير المؤمنين عليه السلام، وتلميذه ابن عباس، وغيرهم من علما الصحابة، حسبماياتي في تراجمهم11.

هل تناول النبى القرآن كله بالبيان؟
عقد الاستاذ الذهبي بابا ذكر فيه الجدل بين فريقين، يرى احدهما: ان النبى صلى الله عليه وآله وسلم قد بين لاصحابه معاني القرآن كله افرادا وتركيبا ويتراس هذا الفريق احمد بن تيمية، كان يرى ان النبى صلى الله عليه وآله وسلم بين جميع معاني القرآن كمابين الفاظه، لقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ12 فانه يشمل الالفاظ والمعاني جميعا13.

والفريق الثاني ـ ويتراسهم الخويي والسيوطي: يرون انه لم يبين سوى البعض القليل، وسكت عن البعض الاخر، ثم فرض لهم دلائل، اهمها ما اخرجه البزاز عن عائشة، قالت: ما كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يفسر شيئا من القرآن الا آيا بعدد، علمه اياهن جبريل14.

واسهب في النقض والابرام، واخيرا نسب كلا من الفريقين الى المغالاة، واختار هو وسطا بين الرايين ـ فيما حسب ـ وان النبى صلى الله عليه وآله وسلم بين الكثير دون الجميع، وترك ما استاثر اللّه بعلمه، وما يعلمه العلم، وتعرفه العرب بلغاته، مما لا يعذر احد في جهالته قال: وبديهي ان النبى صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسر ما يرجع فهمه الى معرفة كلام العرب، كما لم يفسر ما استاثر اللّه بعلمه، كقيام الساعة وحقيقة الروح، مما يجري مجرى علم الغيوب التي لم يطلع اللّه عليها نبيه15.

قلت: لم اجد، كما لا اظن احدا ذهب الى ان النبى صلى الله عليه وآله وسلم لم يبين من معاني القرآن سوى البعض القليل وسكت عن الباقي (الكثير طبعا)، بعد الذي قدمن، وبعد ذلك الخضم من تفاصيل الاحكام والتكاليف التي جات في الشريعة، وكانت تفسيرا وبيانا لما ابهم في القرآن من تشريعات جات مجملة وبصورة كلية، فضلا عما بينه الرسول وفضلا صحابته والعلما من اهل بيته، شرحا لمعضلات القرآن وحلا لمشكلاته .

اما الذي نسبه الى شمس الدين الخويي16 وجلال الدين السيوطي، من ذهابهما الى ذلك، فان كلامهما ناظرالى جانب الماثور من تفاسير الرسول، المنقول بالنص فانه قليل17، لواغفلنا ما رويناه بالاسناد اليه صلى الله عليه وآله وسلم عن طرق اهل البيت الائمة من عترته الطاهرة ـ صلوات اللّه عليهم ـ كما اغفله القوم، والا فالواقع كثير وشامل، ولا سيما اذا ضممنا تفاصيل الشريعة (السنة الشريفة) الى ذلك المنقول من التفسير الصريح .

وقد جعل السيوطي جل تفاصيل الشريعة الواردة في السنة تفسيرا حافلا بمعاني القرآن ومقاصده الكريمة ونقل عن الامام الشافعي: ان كل ما حكم به رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فهو مما فهمه من القرآن وبينه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الا اني اوتيت القرآن ومثله معه، يعني السنة واخيرا نقل كلام ابن تيمية الانف، وعقبه بالتاييد، بما اخرجه احمد وابن ماجة عن عمر، انه قال: من آخر ما نزل آية الرب، وان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قبض قبل ان يفسرها قال السيوطي: دل فحوى الكلام على انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يفسر لهم كل ما انزل، وانه انما لم يفسر هذه الاية، لسرعة موته بعد نزوله، والا لم يكن للتخصيص بها وجه18.

واما حديث عائشة ـ لوصح السند، ولم يصح كما قالوا ـ 19 فهو ناظر الى جانب رعاية الترتيب في تفسيرالاي، اعدادا فاعداد، اوحسب عدد الاي التي كان ينزل بها جبرائيل وهذا يشير الى نفس المعنى الذي رويناه عن ابن مسعود وتلميذه السلمي، وقد نقله ابن تيمية نقلا بالمعنى قال السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئونناالقرآن، انهم كانوا اذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا20.

قال الخطيب: هذا اقدم نص تاريخي عرفنا به الطريقة التي كان يتعلم بها المسلمون الاولون، كانوا لا يعنون بالاكثار من العلم الا بعد اتقان ما يتعلمونه منه،  وبعد العمل به21.

واما الوسط الذي اختاره، وان الذي لم يبينه النبى صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن: هوما استاثر اللّه بعلمه، كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وما يجري مجرى ذلك من الغيوب التي لم يطلع اللّه عليها نبيه22 فشيء غريب الكف عن جعله في متناول الناس عامة وقد تعرض المفسرون لتفسير آي القرآن جميعا حتى الحروف المقطعة، فكيف يا ترى خفى عليهم ان لايتعرضوا لما لا يريد اللّه بيانه للناس؟ اذن فالصحيح من الراي هو: انه صلى الله عليه وآله وسلم قد بين لامته ـ ولاصحابه بالخصوص ـ جميع معاني القرآن الكريم، وشرح لهم جل مراميه ومقاصده الكريمة، اما بيانا بالنص، اوببيان تفاصيل اصول الشريعة وفروعه، ولا سيما اذا ضممنا اليه ما ورد عن الائمة من عترته، في بيان تفاصيل الشريعة ومعاني القرآن، والحمد للّه .

حجم الماثور من تفاسير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
قد يستغرب البعض اذ يجد قلة في التفسير الماثور عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالنص للاستغراب بعد الذي قدمنا، اولا: وفرة الوسائل لفهم معاني القرآن حينذاك، ثانيا: جل بيانات الشريعة كانت تفسيرا لمبهمات القرآن وتفصيلا لمجملاته .

نعم، كانت موارد السؤال والاجابة عليه فيما يخص تفسير القرآن بالنص قليلة، نظرا لعدم الحاجة الى اكثر من ذلك حسبما عرفت غير ان لهذا القليل من تفاسير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا في واقعه، قليلا في نقله وحكايته فالماثور منه قليل، لا اصله ومنبعه الاصيل .

قال جلال الدين السيوطي: الذي صح من ذلك قليل جداً، بل اصل المرفوع منه في غاية القلة وقد انهاهن في خاتمة كتاب الاتقان الى ما يقرب من مئتين وخمسين حديثا في التفسير، ماثوراً عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم بالنص23.

وهذا عدد ضئيل جداً، لا نسبة له مع عدد آي القرآن الكريم، ومواضع ابهامه الكثير،الامر الذي دعا بابن حنبل ان ينكره راساً، الحاقا له بالعدم قال: ثلاثة ليس لها اصول، اولا اصل لها: المغازي، والملاحم، والتفسير قال بدر الدين الزركشي: قال المحققون من اصحابه: يعني ان الغالب انها ليس لها اسانيد صحاح متصلة الاسناد، والا فقد صح من ذلك كثير24 هذا مع ان ابن حنبل قد جعل السنة برمتها تفسيراللقرآن، وسنذكره .

فلو ضممنا سيرته الكريمة وسنته في الشريعة، واحاديثه الشريفة في اصول الدين وفروعه ومعارف الاسلام ودلائل الاحكام، لوضممنا ذلك كله الى ذلك العدد القليل ـ في الظاهر ـ لاصبح التفسير الماثور عن عهدالرسالة ـ على مشرفها آلاف التحية والثناء ـ في حجم كبير وفي كمية ضخمة، كان الرصيد الاوفى للتفاسير الواردة في سائر العصور.

اضف الى ذلك ما ورد عن طريق اهل البيت عليهم السلام من التفسير الماثور25 المستند الى جدهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو عدد وفير، يضاف الى ذلك الكثير الوارد عن غير طرقهم .

وبعد، فانها تكون مجموعة كبيرة من التفسير المستند الى صاحب الرسالة، لها شان في عالم التفسير عبر القرون.

اوجه بيان النبي لمعاني القرآن
قد عرفت كلام السيوطي: ان السنة بجنب القرآن شارحة له وموضحة له قال صلى الله عليه وآله وسلم: “الا اني اوتيت القرآن ومثله معه” يعني السنة الشريفة26.

قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: “ان اللّه انزل على رسوله الصلاة ولم يسم لهم: ثلاثا ولا اربعاً، حتى كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم هوالذي فسر ذلك لهم وانزل الحج فلم ينزل: طوفوا اسبوع، حتى فسر ذلك لهم رسول اللّه ـ وفي رواية اخرى زيادة قوله ـ فنزلت عليه الزكاة فلم يسم اللّه: من كل اربعين درهما درهم، حتى كان رسول اللّه هوالذي فسر ذلك لهم27.

ومعنى ذلك ان الفرائض والسنن والاحكام انما جاءت في القرآن بصورة اجمال في اصل تشريعاته، اما التفصيل والبيان فقد جاء في السنة في تفاصيل الشريعة، التي بينها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياته الكريمة فكانت السنة الى جنب القرآن تفسيرا لمواضع اجماله، وشارحة لمواضع ابهامه.

روى القرطبي بالاسناد الى عمران بن حصين، انه قال لرجل ـ كان يزعم كفاية الكتاب عن السنة: انك رجل احمق، اتجد الظهر في كتاب اللّه اربعا لا يجهر فيها بالقراءة والزكاة ونحوهذا ثم قال: اتجد هذا في كتاب اللّه مفسرا تفسر هذا.

وعن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ويحضره جبرئيل بالسنة التي تفسر ذلك وعن مكحول قال: “القرآن احوج الى السنة من السنة الى القرآن“، وقال يحيى بن ابي كثير: “السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة”، قال الفضل بن زياد: سمعت احمد بن حنبل ـ وسئل عن هذاالحديث الذي روي ان “السنة قاضية على الكتاب”ـ فقال: ما اجسر على هذا ان اقوله، ولكني اقول: ان السنة تفسر الكتاب وتبينه28.

وبعد، فان تبيين مجملات القرآن، من تفاصيل واردة في السنة، يمكن على وجوه:.

الاول: ما ورد في القرآن بصورة تشريعات كلية، لا تفصيل فيها ولا تبيين عن شرائطها واحكامه، فهذا يجب طلب تفاصيلها من السنة، في اقوال الرسول وافعاله وتقاريره، كما في قوله تعالى:﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ29، وقوله:

﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ30 وما شابه، من تكاليف عبادية جاء تشريعهافي القرآن بهذا الوجه الكلي فلابد لمعرفة اعداد الصلاة وركعاتها وافعالها واذكارها وسائر شروطها واحكامها31، من مراجعة السنة، وفيها البيان الوافي بجميع هذه التفاصيل، وهكذا مسالة الزكاة المفروضة والحج الواجب .

وهكذا ما جاء في مختلف ابواب المعاملات، من قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا32 فان للبيع الجائز انواع، وللربا احكام، ينبغي طلبها من السنة، فهي التي تحدد موضوع كل معاملة وتبين الشرائط التي فرضتها الشريعة في تفاصيل هذه المعاملات .

الوجه الثاني: عمومات ذوات تخصيص، جاء العام في القرآن وكانت مواردتخصيصه في السنة وهكذا مطلقات ذوات تقييد، جاء الاطلاق في القرآن وكان التقييد في السنة ولا شك ان التخصيص وكذا التقييد بيان للمراد الجدي من العام وكذا من المطلق، وهذا الذي دل عليه العام في ظاهرعمومه والمطلق في ظاهر اطلاقه، انما هو المعنى الاستعمالي المستند الى الوضع اودليل الحكمة والذي يكشف عن الجد في المراد هوالخاص الوارد بعد ذلك، وكذا القيد المتاخر وهذا معروف في علم الاصول .

ومثال الاول قوله تعالى:﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾33 وهذا عام لمطلق المطلقات وفي السنة تخصيص هذا الحكم بالمدخول بهن، اما غير المدخول بهن فلا اعتداد لهن وكذلك قوله ـبعد ذلك:﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ34 مخصوص بالرجعيات .

مثال الثاني: (تقييد المطلق) قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا35 وقد تقيد هذا الاطلاق بما اذا لم يتب، وكان قد قتله لايمانه، كما رواه العياشي عن الامام الصادق عليه السلام36.

وقوله تعالى:﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ37، اذ ليس المراد مطلق الظلم، بل هو “الشرك” خاصة روي ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم38، وهكذا فسر اليد (في القطع بالسرقة39) باليمين من مفصل الاصابع ومثله جلد الزاني المتقيد بغيرالمحصن .

وايضا قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ40 فقد كان الميراث بعد اخراج ما اوصى به الميت وكذا دينه فالدين مطلق، اما الوصية فقيدت بما اذا لم تتجاوز ثلث التركة بعد وضع الدين فهذا التقييد تعرضت له السنة، وكان قد ابهم في القرآن ابهاما.

الوجه الثالث: ما اذا ورد عنوان خاص في القرآن، وكان متعلقا لتكليف، اوقيدا في عبادة مثلاً، ولكنه كان مصطلحا شرعيا من غير ان يكون مفهومه العام مراد، فهذا ايضا مما يجب تبيينه من السنة وهذا في جميع المصطلحات الشرعية ـ اي الحقائق الشرعية على حد تعبيرهم ـ مما لم تكن لها سابقة في العرف العام .

وهذا كما في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وما شاكل، انها مصطلحات شرعية خاصة، 41 لا بد لمعرفة حقائقها وماهياتها من مراجعة الشريعة، كما كان يجب الرجوع اليها لمعرفة احكامهاوشرائطها، اذ ليست الصلاة مطلق الدعاء والمتابعة ـ كما هي في اللغة والعرف العام غير الاسلامي ـ بل عبادة خاصة ذات كيفية وافعال واذكار خاصة، اعلن بها الشرع الحنيف، وتصدى لبيانه الرسول الكريم، قال: “صلوا كما رايتموني اصلي“.

وهكذا ليست الزكاة مطلق النمو، بل انفاق خاص في كيفية خاصة، توجب تنمية المال بفضل اللّه تعالى ان وقعت عن صدق واخلاص، الامر الذي جاءتبيينه في السنة الشريفة ومثلها الحج ليس مطلق القصد، وكذا الجهاد ليس مطلق الاجتهاد والسعي، وهكذا.

وكذلك موضوع الخطا والعمد في القتل، تعرضت السنة لبيانهم، وليس مطلق ما يفهم من هذين اللفظين لغة اوفي المتفاهم العام، فقد جاء في السنة ان الخطأ محضا هو ما لم يكن المقتول مقصودا اصلا اما اذا كان مقصودا ولكن لم يقصد قتله ـ بان لم يكن العمل الذي وقع عليه مما يقتل به غالبا ـ فوقع قتله اتفاق، فهو شبيه العمد اما اذا كان مقصودا بالقتل فهو العمد محضا فهذا التفصيل والبيان انما تعرضت له السنة تفسيرا لما ابهم في القران من بيان هذه المفاهيم .

الوجه الرابع: موضوعات تكليفية تعرض لها القرآن من غير استيعاب ولا شمول، اذ لم يكن الاستقصاء مقصودا بالكلام، وانما هو بيان اصل التشريع وذكر جانب منه، مما كان موضع الابتلاء ذلك الحين ومن ثم يبدو  ناقصا غير مستقصى، ومجملا في الشمول والبيان .

اما الاستقصاء والشمول فالسنة الشريفة مورده، ففيها البيان والكمال، كما لم تات في القرآن شريعة (رجم المحصن) وانما فصلته السنة عن مطلق حكم الزاني الوارد في القرآن .

ومثل احكام الخطا والعمد في القتل لم يتعرض لها القرآن باستيعاب، اذ هناك خطا محض، وشبه العمد، والعمد المحض ليترتب على الاول ان الدية على العاقلة، وعلى الثاني كانت الدية على القاتل، وفي الثالث كان تشريع القصاص هو الاصل الا اذا رضي الاولياء بالدية او العفو.

فهذا الاستيعاب والاستقصاء انما تعرضت له السنة، فاكملت بيان القرآن ورفعت من ابهامه، في هذا الجانب الذي كان يبدو مجملا لوكان بصدد البيان ولم يكن اصل التشريع مقصودا فقط.

الوجه الخامس: بيان الناسخ من المنسوخ في احكام القرآن، اذ في القرآن احكام اولية منسوخة، واحكام اخر هي ناسخة نزلت متاخر، فلتمييز الناسخ من المنسوخ لا بد من مراجعة السنة اماالقرآن ذاته فلا تمييز فيه بين ناسخه ومنسوخه، ولا سيما والترتيب الراهن بين الايات والسور قد تغير عما كان عليه النزول في البعض على الاقل اذن لم يبق لمعرفة وجه التمايز بين الحكم المنسوخ والحكم الناسخ الامراجعة نصوص الشريعة ومن ثم قال مولانا امير المؤمنين عليه السلام لقاض مر عليه بالكوفة: اتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فهاب الامام واجاب بالنفي اهلكت42.

فمن ذلك قوله تعالى ـ بشان المتوفى عنها زوجها:﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ43 كانت الشريعة في البدء ان المراة المتوفى عنها زوجها لا ميراث لها سوى الامتاع في التركة حولا كامل، وكان ذلك عدتها ايضا لكنها نسخت بآية المواريث44 وبآية التربص اربعة اشهر وعشرا45 (وآية التربص الناسخة مثبتة في سورة البقرة قبل آية الحول المنسوخة).

هكذا ورد في الحديث عن الامام امير المؤمنين عليه السلام، وعن الامامين الباقر والصادق عليه السلام46.

ومن ذلك ايضا آية جزا الفحش، فما في سورة النساء(15ـ16) منسوخة بشريعة الجلد (النور:2) والرجم، هكذا ورد عن الامام الصادق عليه السلام47.

ونظير ذلك كثير، ولا سيما اذا عممنا النسخ ليشمل التخصيص والاستثناء وسائر القيود ايضا، وقد كان معهوداذلك الحين .


نماذج من تفاسير ماثورة عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم

قلنا: ان الصحابة كانوا في غنى ـ في الاغلب ـ عن مسائلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشان معاني القرآن، او كانوا يحتشمون سؤاله، لما كان القرآن قد نزل بلغتهم وفي مناسبات كانوا هم حضور مشهدها واحيانا اذا كان ابهام في وجه آية، اوخفي المراد من سياقه، كانوا يراجعونه لا محالة، وفي الاكثر كانوا يترصدون اسئلة الاعراب اوالطارئين فيتبادرون الى تفهم ما يجري بينهم وبين الرسول بشان معاني القرآن، حتى قالوا: ان اللّه ينفعنا بالاعراب ومسائلهم48.

وبعد فقد جمع من هذا وذاك حشد كبير من تفاسير ماثورة عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رواها ائمة الحديث في امهات الجوامع الحديثية المعروفة .

والاكثر سؤالا انما وقع عن مرادات القرآن، بعد وضوح الكلمة في مفهومها اللغوي، حيث ظاهر اللفظ ينبئ عن شي، لكن المراد غير هذا الظاهر المفهوم حسب دلالة الوضع، اويشك في ارادة هذا الظاهر، لقرائن حالية اومقالية، تبعث على السؤال عن المراد الواقعي .

٭ فقد سئل النبى صلى الله عليه وآله وسلم عن “السائحين” في قوله تعالى:﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ49، فقال: هم الصائمون50 فلا غموض في معنى السياحة، ولكن اى مصاديق السياحة مقصودة هنا؟ ولعل هنا استعارة جاءت لامر معنوي، مما يدعوالى السؤال عنه ومراجعة اهل الذكر قال الطبرسي: السائح من: ساح في الارض يسيح سيحاً، اذا استمر في الذهاب، ومنه السيح للماء الجاري، ومن ذلك يسمى الصائم سائحاً، لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى قال: وروي عن النبي انه قال: “سياحة امتي الصيام”51.

٭ وسئل عن الاستطاعة في قوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً52 قال صلى الله عليه وآله وسلم: “الزاد والراحلة”53 فان مفهوم الاستطاعة عام يشمل اى نحومن الاستطاعة وباى وسيلة مقدورة وكانت بالامكان، غير ان هذا غير المراد بالاستطاعة الى الحج الواجب، فبين عليه السلام انه القدرة على الزاد والراحلة، ان كان ذلك بوسعه من غير تكلف وهذا كناية عن الاستطاعة المالية، كما فهمه الفقها رضوان اللّه عليهم .

٭ وهكذا لما سالته عائشه عن الكسوة الواجبة في كفارة الايمان، في قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُم54 اجاب صلى الله عليه وآله وسلم: “عباءة لكل مسكين”55.

٭ وساله رجل من هذيل عن قوله تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ56 قال: يا رسول اللّه، من تركه فقد كفر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “من تركه لايخاف عقوبته ولا يرجو مثوبته57 كناية عمن تركه جحودا لا يؤمن بعاقبته، فهذا كافر بالمعاد وبيوم الجزاء والحساب، الامر الذي يعود الى انكار ضروري للدين وانكار الشريعة راس، اما الذي تركه لا عن نكران فهوفاسق عاص وليس بكافر جاحد.

وهكذا روي عن الامام موسى الكاظم عليه السلام حينما ساله اخوه علي بن جعفر: من لم يحج منا فقد كفر؟58.

٭ وسئل عن قوله تعالى:﴿كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ59، ما معنى “عضين”؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “آمنوا ببعض وكفروا ببعض60. فالاية الكريمة انكار على الذين فرقوا بين اجزاء القرآن الامر يثير السؤال عن المراد من هذه التجزئة المستنكرة ؟ ومن ثم كان الجواب: انها التفرقة في الايمان بالبعض والكفر بالبعض . وسئل عن قوله تعالى:﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ61، كيف يشرح صدره؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “نور يقذف به فينشرح له وينفسح!” قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: “الانابة الى دارالخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت62. وساله عبادة بن الصامت63 عن قوله تعالى:﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ64، ماذا تكون تلك البشارة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل، او ترى له65.

وروى الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه باسنادهما عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: “البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشر بها في دنياه” وزاد في الفقيه: “واما قوله: (في الاخرة)، فانها بشارة المؤمن عند الموت، يبشر بها عند موته: ان اللّه عز وجل قد غفر لك ولمن يحملك الى قبرك” وقال على بن ابراهيم القمي: و(في الاخرة) عند الموت، وهو قوله تعالى:﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ66.

٭ وسئل عن قوله تعالى:﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا67 كيف يحشر اهل النار على وجوههم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “ان الذي امشاهم على اقدامهم قادر ان يمشيهم على وجوههم68. وبهذا المعنى آية اخرى اوضحت الحشر على الوجوه بالسحب على وجوههم، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر69، وقوله:﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا70.

٭ واخرج الحاكم باسناده الى الاصبغ بن نباتة ـ وقال: انه احسن الروايات في هذا الباب ـ عن الامام امير المؤمنين عليه السلام، قال: لما نزلت الاية ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ71 قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل، ما هذه النحيرة التي امرني بها ربي؟ قال: انها ليست بنحيرة، ولكنه يامرك اذا تحرمت للصلاة ان ترفع يديك اذا كبرت واذا ركعت واذا رفعت راسك من الركوع، فانها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السماوات السبع72 وفي رواية اخرى زيادة قوله: ان لكل شي زينة، وزينة الصلاة رفع الايدي قال صلى الله عليه وآله وسلم: رفع الايدي من الاستكانة التي قال اللّه ـ عز وجل: ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون73.

٭ وسالته ام هانئ (بنت ابي طالب) عن المنكر الذي كان قوم لوط ياتونه في ناديهم، حيث قوله تعالى: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ74؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “كانوا يخذفون اهل الطريق ويسخرون75.

ولعل هذا كان بعض اعمالهم المنكرة، ففي المجمع: كانت مجالسهم تشتمل على انواع من المناكير والقبائح، مثل الشتم والسخف والصفع والقمار، وضرب المخارق وخذف الاحجار على المارين وضرب المعازف والمزامير، وكشف العورات واللواط، وقيل: كانوايتضارطون من غير حشمة ولا حياء76.

٭ وربما سالوه عن عموم حكم وشموله لبعض ما اشتبه عليهم امره، فقد ساله جريربن عبد اللّه الجبلي77 عن نظرة الفجاة، وقد قال تعالى:﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ…78، فهل يشمل عموم الامر بالغض لما اذا كانت النظرة فجاة، وهي غير ارادية؟

قال جرير: فامرني صلى الله عليه وآله وسلم ان اصرف بصري79، اي لا يداوم في النظرة، ويصرف ببصره من فوره .

وعن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال: جاء رجل الى النبى صلى الله عليه وآله وسلم وساله عن امر اليتامى، حيث قوله تعالى:﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا80 الى قوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ...81 فقال: يا رسول اللّه، ان اخي هلك وترك ايتاما ولهم ماشية، فما يحل لي منها؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ان كنت تليط حوضه، وترد ناديته، وتقوم على رعيته، فاشرب من البانه، غير مجتهد ولا ضار بالولد، واللّه يعلم المفسد من المصلح82 اشارة الى قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِح83.

واحيانا كانت الاسئلة لغوية، على  ان القرآن اخذ من لغات القبائل كله، وربما كانت اللفظة المتداولة في قبيلة، غير معروفة عند الاخرين.

٭ من ذلك ما ساله قطبة بن مالك الذبياني84 عن معنى “البسوق” من قوله تعالى: ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ85 قال: ما بسوقها؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: طولها86 قال الراغب: باسقات، اي طويلات والباسق هو الذاهب طولا من جهة الارتفاع، ومنه بسق فلان على اصحابه: علاهم.

٭ وساله عبد اللّه بن عمروبن العاص عن الصور في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، 87 قال صلى الله عليه وآله وسلم: هوقرن ينفخ فيه88 .

٭ وعن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا89، الاحسار: الاقتار90. الحسر: كشف الملبس عما عليه والحاسر: من لا درع له ولا مغفر وناقة حسير: انحسر عنها اللحم والقوة والحاسر: المعي، لانكشاف قواه.

اذن فالمحسور: من افتقد اسباب المعيشة التي اهمها المال، وليس من الحسرة كماتوهم، فصح تفسير المحسور بالمقتر، لان القتر فقد النفقة او تقليله، والمقتر: الفقير.

وربما كانت الاية شديدة الوطاة، قد تجعل المسلمين في قلق، لولا مراجعته صلى الله عليه وآله وسلم ليفسرها لهم بما يرفع عنهم الم الياس وقلق الاضطراب.

من ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن الامام ابي جعفر الباقرعليه السلام قال: لما نزلت الاية:﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ91، قال بعض أصحاب رسول الله صلى عليه وآله وسلم: ما أشدها من آية! فقال لهم رسول اللّه: اما، قال بعض اصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ما اشدها من آية تبتلون في اموالكم وانفسكم وذراريكم؟ قالوا: بلى، قال: هذا مما يكتب اللّه لكم به الحسنات ويمحوبه السيئات92.

٭ وسئل فيما النجاة غدا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “النجاة ان لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فانه من يخادع اللّه يخدعه ويخلع منه الايمان، ونفسه يخدع لو يشعر“.

فقيل: كيف يخادع اللّه؟ قال: “يعمل بما امره اللّه ثم يريد به غيره، فاتقوا اللّه فاجتنبوا الريا فانه شرك باللّه93، وذلك قوله تعالى:﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ94.

ولما نزلت الاية: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم95 قالوا: يا رسول اللّه، من هؤلاء الذين اذا تولينا استبدلوا بنا؟ هذا وقومه وفي رواية الطبري: فضرب على منكب سلمان وقال: من هذا وقومه والذي نفسي بيده لوان الدين تعلق بالثريالنالته رجال من اهل فارس وفي رواية البيهقي: لوكان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس96.

٭ وربما سالوه صلى الله عليه وآله وسلم عن غير الاحكام مما جاء ذكره في القرآن اجمال، ليبعثهم حب الاستطلاع على السؤال عنه من ذلك سؤال فروة بن مسيك المرادي97 عن “سبا”: رجل اوامراة ام ارض ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هو رجل ولد عشرة من الولد، ستة من ولده باليمن، واربعة بالشام فاما اليمانيون فمذحج وكندة والازد والاشعريون وانمار وحمير، خير كله، واما الشاميون فلخم وجذام وعاملة وغسان98.

قال الطبرسي: سب، هوابوعرب اليمن كله، وقد تسمى به القبيلة99، وهو الظاهر في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ100.

وساله ابوهريرة عن قوله تعالى:﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ101، قال: انبئنى عن “كل شيء”؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “كل شي خلق من الماء”102، بمعنى ان الماء اصل الحياة، حيوانا كان ام نباتا وورد في الحديث: اول ما خلق اللّه الماء103.

واحيانا كان صلى الله عليه وآله وسلم يتصدى لتفسير آية اوآيات لغرض العظة اوالاعتبار، كالذي رواه ابوسعيد الخدري104 عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى:﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ105 قال صلى الله عليه وآله وسلم:تشويها النار فتتقلص شفاهها العليا حتى تبلغ وسط الرؤوس، وتسترخي شفاهها السفلى حتى تبلغ الاسرة اخرجه الحاكم، وقال: صحيح الاسناد106. وعن ابي هريرة، قال: قرأ النبى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا107 ثم قال: اتدرون ما اخبارها؟ قالوا: اللّه ورسوله اعلم في يوم كذا وكذا108. وعن ابي الدرداء109 قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ *جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا110 ثم قال: “السابق والمقتصد يدخلان الجنة غير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة111. وهكذا روى عمران بن حصين112 قال: كان النبى صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني اسرائيل، لا يقوم الا لعظيم صلاة113.

ولعله ذات ليلة اوليالي معدودة كانت معهودة . هذا غيض من فيض ورشف من رشح، فاضت به ينبوع الحكمة ومهبط الوحي الكريم، ولا زالت بركاته متواصلة عبر الخلود.

*التفسير والمفسرون في ثوبه الثقيب، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، ط1، ص173-198.


1- النحل:89.
2- النحل:44
3- البقرة:43.
4- النساء:103.
5- آل عمران:97.
6- تفسير الطبري، ج1، ص 27 ـ 28 وص 30.
7- المعيار والموازنة للاسكافي، ص 304.
8- اسمه اسعد، سماه بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ودعا له وبرك عليه توفي سنة (100) وهوابن نيف وتسعين (اسد الغابة، ج5، ص 139).
9- الواقعة:28.
10- اخرجه الحاكم وصححه، المستدرك، ج2، ص 476.
11- عند الكلام عن دور الصحابة في التفسير.
12- النحل:44.
13- راجع: مقدمته في اصول التفسير، ص 5 ـ 6.
14- تفسير ابن كثير، ج1، ص 6 وتفسير الطبري، ج1، ص 29.
15- التفسير والمفسرون، ج1، ص 53 ـ 54.
16- هو ابو العباس احمد بن خليل المهلبي الخويي (583 ـ 637) صاحب الامام الرازي والمتمم لتفسيره ولد في خوي من اعمال آذربيجان، وتعلم بها وبخراسان، ثم ولى قضاء دمشق وتوفي بها.
17- قال الخويي: واما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم الا بان يسمع من الرسول صلى الله عليه وآله وسلموذلك متعذر الا في آيات قلائل (الاتقان، ج4، ص 171). وقال السيوطي ـ عند بيان مخذ التفسير ـ: الذي صح من ذلك (المنقول عن النبى ) قليل جدا (الاتقان، ج4، ص 181).
18- الاتقان، ج4، ص 174 و175 و258.
19- ذكروا انه حديث منكر غريب، والاستدلال به باطل (التفسير والمفسرون، ج1، ص 55).
20- راجع: رسالة الاكليل، المطبوعة ضمن المجموعة الثانية من رسائل ابن تيمية، ص 32.
21- هامش مقدمة ابن تيمية في اصول التفسير، ص 6.
22- التفسير والمفسرون، ج1، ص 56و57.
23- راجع: الاتقان، ج4، ص 180 و214 ـ 257.
24- البرهان للزركشي، ج2، ص 156.
25- قام زميلنا الفاضل السيد محمد برهاني ـ نجل العلامة المحدث السيد هاشم البحراني صاحب تفسير البرهان ـ بجمع ما اسند الى النبى صلى الله عليه وآله وسلم من التفسير، المروي عن طرق اهل البيت عليهم السلام فبلغ لحد الان حوالي اربعة الاف حديث، ولا يزال يزيد، ما دام العمل مستمر،وفقه اللّه .
26- الاتقان، ج4، ص 174.
27- الكافي الشريف، ج1، ص 286 والعياشي، ج1، ص 249 ـ 251، رقم169 و170 والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، ج1، ص 149.
28- تفسير القرطبي ـ المقدمة ـ ج1، ص 39.
29- البقرة:43.
30- آل عمران:97.
31- مثلا قوله تعالى: (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (النساء:103) ما هذاالوقت المحدد للصلاة ؟ فقد احيل بيان ذلك الى السنة وهكذا بيان الاوقات الخمسة التي جات الاشارة اليها اجماليا في قوله:(اقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل وقرآن الفجر) (الاسراء:78).
32- البقرة:275.
33- البقرة:228.
34- النساء:93.
35- البقرة:288
36- راجع: مجمع البيان للطبرسي، ج3، ص 92 ـ 93 والعياشي، ج1، ص 267.
37- الانعام:82.
38- مجمع البيان، ج4، ص 327.
39- الاية رقم 38 من سورة المائدة .
40- النساء:12.
41- المقصود بالشرع: مطلق الشرائع الالهية وليس شرع الاسلام فحسب نعم لم تكن هذه المفاهيم مما وضعه العرف العام ولا اللغة، وانما هوامر جاء به الشرع في مصطلحه الخاص .
42- تفسير العياشي، ج1، ص 12، رقم9 والاتقان، ج2، (ط1)، ص 20.
43- البقرة:240.
44- النساء:12.
45- البقرة:234.
46- راجع: بحار الانوار، ج93، ص 6 والصافي، ج1، ص 204.
47- العياشي، ج1، ص 227ـ228.
48- سبق ذلك في اول الفصل .
49- التوبة:112.
50- المستدرك، ج2، ص 335.
51- مجمع البيان، ج5، ص 75و76.
52- آل عمران:97.
53- الاتقان، ج4، ص 218.
54- المائدة:89.
55- الاتقان، ج4، ص 221.
56- آل عمران:97.
57- الاتقان، ج4، ص 218.
58- الصافي ـ الفيض الكاشاني ـ ج1، ص 282.
59- الحجر:91.
60- الاتقان، ج4، ص 234 عضون: جمع عضة بمعنى عضو، كقولهم: ثبة وظبة، والجمع: ثبون وظبون ومعنى العضين: جعله عضوا عضو، اي في اجزا متفرقة كالتعضية، بمعنى التفرقة،فهو تجزئة الاعضاء.
61- الانعام:125.
62- الاتقان، ج4، ص 222.
63- كان ممن جمع القرآن على عهده صلى الله عليه وآله وسلموكان يعلم اهل الصفة القرآن وشهد المشاهد كلهامع رسول اللّه واستعمله النبي على بعض الصدقات، وكان نقيبا في الانصار كان طويلا جسيما جميلا توفي سنة72 .
64- يونس:64.
65- المستدرك، ج2، ص 340.
66- النحل:32، تفسير الصافي، ج1، ص 758.
67- الفرقان:34.
68- المستدرك، ج2، ص 402.
69- القمر:48.
70- الإسراء:97
71- الكوثر:2.
72- المستدرك، ج2، ص 532.
73- المؤمنون:76 المستدرك، ج2، ص 538.
74- العنكبوت 29.
75- المستدرك، ج2، ص 409.
76- مجمع البيان للطبرسي، ج8، ص 280.
77- اسلم قبل وفاة النبي باربعين يوما كان سيد قومه وجيها حسن الصورة وكان يلقب بيوسف هذه الامة ولما دخل على النبي رحب به واكرمه، وقال: اذا اتاكم كريم قوم فاكرموه وبعثه في مائة وخمسين فارسا الى ذي الخلصة ليهدم بيت صنم كان هناك لخثعم، ودعا له، وقال:اللهم اجعله هاديا مهديا توفي سنة 51.
78- النور:30.
79- المستدرك، ج2، ص 396.
80- النساء:2
81- النساء:2و6 والحوب: الاثم .
82- العياشي، ج1، ص 107، رقم321 لاط الحوض: مدره لئلا ينشف الما والنادية: النوق المتفرقة .
83- البقرة:220.
84- كان من الصحابة الذين سكنوا الكوفة روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وعن زيد بن ارقم وغيره .
85- ق:10.
86- المستدرك ، ج2 ، ص 464.
87- الزمر:68.
88- المستدرك ، ج2 ، ص 436.
89- الاسراء:29.
90- تفسير العياشي ، ج2 ، ص 289.
91- النساء:123.
92- تفسير العياشي ، ج1 ، ص 277، رقم278 .
93- تفسير العياشي ، ج1 ، ص 283، رقم295 .
94- النساء:142.
95- محمد:38.
96- راجع : المستدرك للحاكم ، ج2 ، ص 458 والطبري في التفسير، ج26 ، ص 42 والدرالمنثور، ج6 ، ص 67.
97- قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سنة عشر فاسلم ، فبعثه على مراد وزبيد ومذحج قال ابن اسحاق : فلما انتهى الى رسول اللّه، قال له ـ فيما بلغنا ـ : يا فروة ، هل ساك ما اصاب قومك يوم الردم ؟ قال : يا رسول اللّه ، ومن ذا الذي يصيب قومه ما اصاب قومي يوم الردم ولايسوؤه ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اما ان ذلك لم يزد قومك في الاسلام الا خيرا (اسد الغابة ، ج4 ،ص 180).
98- المستدرك ، ج2 ، ص 423 ـ 424.
99- مجمع البيان ، ج8 ، ص 386.
100- سورة سبأ:15.
101- الانبياء:30.
102- الاتقان ، ج4 ، ص 238.
103- كتاب التوحيد، للصدوق ، ص 67، رقم82 .
104- هوسعد بن مالك بن سنان الانصاري . كان من الحفاظ للحديث المكثرين ، ومن العلماالفضلا النبلا. غزا مع رسول اللّه6 وهوابن خمس عشرة سنة ، مات سنة74 . (اسدالغابة ، ج2 ، ص 289 وج5 ، ص 211).
105- المؤمنون:104.
106- المستدرك ، ج2 ، ص 395.
107- الزلزلة:4
108- المستدرك ، ج2 ، ص 532.
109- هوعويمر بن مالك بن زيد كان من افاضل الصحابة وفقهائهم وحكمائهم ، وكان مشاهده الخندق مات سنة32 .
110- فاطر:32.
111- المستدرك ، ج2 ، ص 426.
112- اسلم عام خيبر، وغزا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم غزوات بعثه عمر على البصرة ليفقه اهلها ويتولى قضاها فاستعفى بعد قليل عن ولاية القض، وكان من فضلا الصحابة ، ولم يكن بالبصرة من يفضل عليه ابتلى بمرض الاستسقا ودام به المرض ثلاثين يوم، وهومسجى على سريره توفي سنة52 (اسدالغابة ، ج4 ، ص 137).
113- المستدرك ، ج2 ، ص 379.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *