يمتاز التفسير في عهد التابعين بمميزات، تفصلها عن تفاسير الصحابة من وجوه
اولا: التوسع فيه فقد تعرض التابعون لمختلف ابعاد التفسير، وخاضوا معاني القرآن، من مختلف الجهات والمناحي بينما كان تفسير الصحابة مقتصرا على جوانب محدودة من اللغة، وشان النزول، وبعض المفاهيم الشرعية، لرفع ما ابهم على الناس من هذه الجهات فحسب فقد خطا تفسير التابعي خطوات اوسع وفي جوانب اكثر.
ومن ثم فان التفسير في هذا العهد، يشمل جوانب الادب واللغة في ابعاد مترامية وهكذا التاريخ لامم سالفة، وامم معاصرة مجاورة لجزيرة العرب، تاريخ حياتهم وبلادهم، على ما وصلت اليهم من اخبارهم و حتى بعض لغاتهم وثقافاتهم، مما يمس جانب القرآن وهكذا دخل في التفسير بحوث كلامية نشات ذلك العهد، وارتبطت مع كثير من آي القرآن بعض الربط كيات الصفات والمبدا والمعاد وما شابه.
وقد اخذ هذا التوسع بازدياد مطرد، وفي ابعاد مستجدة كلما توسعت العلوم والمعارف، وازداد التعرف الى آداب وثقافات كان يملكها امم يدخلون في دين اللّه افواج، ومعهم علومهم ومعارفهم، يحملونها ويجعلونها في خدمة الاسلام والمسلمين، وكانت لم تزل تتسع مع اتساع رقعة الاسلام.
ولا يزال حجم التفسير يتضخم، حيث وفرة العلوم والمعارف المساعدة لحل قسط وافر من مشاكل غامضة مما تحتضنه كثير من آيات كونية او لافتة الى خبايا اسرار الوجود وللعلم والفلسفة في جميع مناحيهما حظهما الاوفر في هذا المجال.
ثانيا: تشكله وثبته ثم تدوينه.
كان التفسير على عهد الصحابة كحاله في عهد الرسالة، منتثرا على افواه الرجال، ومبثوثا بين اظهرهم، محفوظا في الصدور لقصر خطاه وقرب مداه ومقتصرا على بضع كلمات لبضع آيات، كانت خافية المفاد، او مبهمة المراد حينذاك.
اما وكونه منتظما رتيب، ومثبتا ذا تشكيل وتدوين فهذا قد حصل او اخذ في الحصول على عهد التابعين وتابعي التابعين كان احدهم يعرض القرآن من بدئه الى الختم، على شيخه يقرؤه عليه، يقف لدى كل آية آية يساله عنها ويستفهمه معانيه، او يستعلم منه مقاصدها ومراميه، ولا يجوزها حتى يدونها في سجل، او يثبتهافي دفتر او لوح، كان يحمله معه وهكذا اخذ التفسير، يتشكل ويتدون ذلك العهد.
قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، اقف عند كل آية، اساله فيم انزلت، و كيف نزلت قال ابن ابي مليكة: رايت مجاهدا يسال ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه الواحه فيقول له ابن عباس: اكتب حتى ساله عن التفسير كله و من ثم قيل: اعلمهم بالتفسير مجاهد1.
1.
وكان ابن عباس يجتهد في تربية عكرمة مولاه، فرباه فاحسن تربيته، وعلمه فاحسن تعليمه، حتى اصبح فقيه، واعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن2.
ولقتادة كتاب في التفسير، وربما كان كبير الحجم ضخما فقد استخدمه الخطيب البغدادي، كما استخدمه الطبري في اكثر من ثلاثة آلاف موضع من تفسيره3.
وهكذا لجابر بن يزيد الجعفي4 والحسن البصري5 وابان بن تغلب6 وزيدبن اسلم7 وغيرهم كتب معروفة في التفسير وعلوم القرآن.
قال عادل نويهض: ابان بن تغلب، مقرئ جليل، مفسر، نحوى، لغوي، محدث، من اهل الكوفة وثقه احمد وابن معين وابو حاتم خرج له مسلم والاربعة من آثاره “معاني القرآن” و”غريب القرآن” ولعله اول من صنف في هذا الموضوع توفي سنة (141)8.
وثالثا: النظر والاجتهاد كانت هي ميزة كبرى حظي بها عهد التابعين، ان قام عديد من كبار العلما ذاك العهد، فاعملوا النظر في كثير من مسائل الدين، ومنها مسائل قرآنية، كانت تعود الى: معاني الصفات، واسرار الخليقة، واحوال الانبياء والرسل، وما شاكل فكانوا يعرضونها على شريعة العقل، ويحاكونها وفق حكمه الرشيد، وربما يؤولونها الى ما يتوافق مع الفطرة السليمة.
واول مدرسة اخذت في الاجتهاد واعمال النظر لاستنباط معاني القرآن، مدرسة مكة، التي اشادها الصحابي الجليل تلميذ الامام امير المؤمنين عليه السلام الموفق، عبد اللّه بن عباس وكان متخرجوا هذه المدرسة هم الذين اسسوا بنيان الاجتهاد في التفسير وعلى يدهم شاعت وذاعت طريقة الاجتهاد في مناحي الشريعة المقدسة، على الاطلاق.
ثم مدرسة الكوفة، تاسست على يد عبد اللّه بن مسعود، وتخرجت منها علما افذاذ، اصحاب نظر واجتهاد واصبحت مدرسة الكوفة بعدئذ معهد الدراسات الاسلامية، يقصدها رواد العلم من جميع اطراف البلاد، حيث محط جل الصحابة، ولا سيما بعد مهجر الامام امير المؤمنين عليه السلام فقد ارتحل اليها العلم برمته، واخذت مجامع الكوفة تحتضن الكبار من علماء الاسلام يومذاك وعليهم دارت رحى العلم وفاضت ينابيع المعارف الى ارجاء البلاد.
ولم تدم مدرسة مكة طويل، واخذت بالافول بعد وفاة صاحبها ومؤسسها عام (68) وتفرق متخرجيها وانتشارهم في اكناف الارض فقد ارتحلوا الى خراسان ومصر والشام وسائر الديار.
غير ان مدرسة الكوفة اخذت تزدهر وتزداد صيتا ونشاطا مع تقادم الايام.
وهاتان المدرستان هما الاساس لنشر العلم وبث المعارف بين العباد، وان كانت احداهما اخذت في الاندثار، بينما الاخرى استمرت في الازدهار والتوسع والانتشار.
واكثر العلما التابعين بل الغالبية الساحقة، هم المتخرجون من هاتين المدرستين.
فكان لهما الفضل الكبير على الامة، في تثقيفهم والتنشيط في السعي وراء العلم والمعرفة ويعود الفضل في ذلك الى الصحابيين الجليلين: ابن عباس وابن مسعود، وعلى راسهما الامام اميرالمؤمنين عليه السلام.
هذا مجاهد بن جبر، متخرج مدرسة ابن عباس، وقد اجمعت الامة على امامته والاحتجاج بكلامه9.
رمي بحرية الراي في التفسير، وان شئت فقل: حظي بقوة الفهم وحدة النظر ووفور العقل والذكاء.
نعم حيث كانت عقلية الجمود، هي الساطية على غوغاء الناس حينذاك، كان توجيه هكذا تهم الى امثال هؤلاالافذاذ، يبدو طبيعيا في ظاهر الحال.
قيل له: انت الذي تفسر القرآن برايك؟ مبانيه وطرائق استنباط معانيه عن بضعة عشر رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم كان مجاهد يحمل ذهنية متحررة عن قيود الاوهام، وعقلية واعية تمكنه من ادراك الحقائق ولمسها في واقع امرها، دون الاقتصار على الظاهر والاقتناع بالقشور.
انه كان يعرض الاي القرانية ـ لغرض فهم معانيهاـ على المتفاهم العام من الالفاظ والكلمات، ثم على مباني الشريعة و شواهد التاريخ و نحوها مما كان متعارفا لفهم المعاني لدى العرف العام لكن من غير ان يقتنع بذلك، حتى يعرضها على فهم العقل وتوافق الفطرة، من غير ان يختفي عنه شي من الشواهدو دقائق الكلام.
قال ـ في تفسير قوله تعالى:﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾: 10 لم يمسخوا قردة، وانما هو مثل ضربه اللّه، كما قال: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾11 قال: انه مسخت قلوبهم، فجعلت كقلوب القردة، لا تقبل وعظا ولا تتقي زجرا12.
وقال ـ في تفسير قوله تعالى:﴿رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكََ﴾ـ 13 قال: مثل ضرب لم ينزل عليهم شي قال ابو جعفر الطبري: قال قوم: لم ينزل على بني اسرائيل مائدة، فقال بعضهم: انما هذا مثل ضربه اللّه تعالى لخلقه نهاهم به عن مسالة نبى اللّه الايات ثم اسند ذلك الى مجاهد14.
وعند تفسير قوله تعالى:﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةََ﴾15، قال: تنتظر الثواب من ربهاقيل له: ان اناسا يقولون: انه تعالى يرى، فيرون ربهم: فقال: لا يراه من خلقه شي 16.
قال الاستاذ الذهبي: ان مثل هذا التفسير عن مجاهد، اصبح متكئا قويا للمعتزلة فيما بعد، فيما ذهبوا اليه من مذاهب عقلية.
قلت: ليس مجاهد وحده ممن فتح باب الاجتهاد والنظر في مفاهيم القرآن، بل كان يرافقه ـ ذلك العهد ـ كثير من ارباب العقول الراجحة، ممن سماهم اللّه تعالى ﴿أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾17، وهم وفرة في اصحاب النبي صلى الله عليه وآله سلم والتابعين لهم باحسان وفي هذا التاليف تنويه بجلة من اعلامهم.
كما ان المعتزلة ليسوا هم وحدهم ـ ممن تبعوا طريقة العقل الرشيد، ونبذوا الجمودفي الراي وراء الظهور ففيما عدى السلفيين الحفاة الجفاة و اذنابهم الاشاعرة العراة، خلق كثير وزرافات من الامة المرحومة، واكبوا اهل الاعتزال او سبقوهم في هذا المضار، ولا يزال.
ومن الموصوفين بحرية الراي والاجتهاد في التفسير، عكرمة مولى ابن عباس، الذي رباه فاحسن تربيته وعلمه فاحسن تعليمه، حتى اصبح من الفقهاء واعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن 18.
كان يرى مسح الارجل في الوضؤء مستفادا من الكتاب، كما فهمه شيخه ابن عباس ويرفض ما استظهره سائرالفقها ويخطؤهم في استظهار الخلاف19.
وهكذا في المسح على الخفين كان ينكره اشد الانكار كان يقول: “سبق الكتاب المسح على الخفين”20 يعني: ان الكتاب جاء بالمسح على الارجل اما المسح على الخفين فامر حادث، لا يجوز ترك القرآن بذلك.
اما القوم فكانوا يرون المسح على الخفين ناسخا للمسح على الارجل ذكر الجصاص ان ابا يوسف كان يرى ان سنة المسح على الخفين نسخت آية المسح على الارجل21.
وزيد بن اسلم مولى عمر، الفقيه المفسر،برع حتى اصبح من كبار التابعين المرموقين كانت له حلقة في مسجدالمدينة يحضرها جل الفقهاء و ربما بلغوا اربعين فقيها له تفسير يرويه عنه ولده عبد الرحمان قال ابن حجر:اخذ العلم من جماعة، منهم علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، وعده ابو جعفر الطوسي من اصحاب الامام السجاد قال: كان يجالسه كثيرا له رواية عن الامامين الباقر والصادق عليه السلام.
وقد اخذ عليه حريته في الراي والاجتهاد، على خلاف مذهب الاحتياط والوقوف لدى الماثور قال حماد:قدمت المدينة وهم يتكلمون في زيد بن اسلم فقال لي عبيد اللّه بن عمر: ما نعلم به بأساً الا انه يفسر القرآن برايه.
والمعروف عن اهل المدينة انهم اصحاب وقف واحتياط 22.
هذا وقد راج التفسير العقلي فيما بعد، ولا سيما عند المعتزلة ومن حذا حذوهم في تقديم العقل على ظاهرالنقل.
هذا ابو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني (255 ـ 344) قد وضع تفسيره على اساس من التفكير الصحيح وفق ما يرتضيه الدين الاسلامي الحنيف، من نبذ التقليد والتمسك بعرى التحقيق﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ…﴾23.
هو عند ما يفسر قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار﴾24 بان زكريا لما طلب من اللّه تعالى آية تدله على حصول العلوق (انعقاد النطفة في رحم زوجه) قال: آيتك ان لا تكلم، اي تصير مامورا بان لا تتكلم ثلاثة ايام بلياليها مع الخلق (اي اذا جاءك الامر بذلك، فاعلم ان الحمل بيحيى قد تحقق عند ذلك) اي تكون مشتغلا بالذكر والتسبيح والتهليل، معرضا عن الخلق والدني، شاكرا للّه تعالى على اعطاء مثل هذه الموهبة فان كانت لك حاجة، دل عليها بالرمز فاذا امرت بهذه الطاعة فاعلم انه قد حصل المطلوب.
يقول الامام الرازي بشانه ـ وهو اشعري يخالفه في المذهب ـ: “وهذا القول عندي حسن معقول وابو مسلم حسن الكلام في التفسير، كثيرالغوص على الدقائق واللطائف”25.
هذه شهادة راقية من اكبر علم من اعلام التحقيق في الفلسفة والكلام، بشان المع شخصية بارزة، مارس عقله وشاور لبه عند تفهم القرآن، ممن نبذ التقليد واخذ في التدقيق.
وانت اذا قارنت هذا التفسير لهذا الموضع بالذات، مع سائر التفاسير التي عرضهاالقوم، تجد الفرق بائنا والبون شاسعا.
ذكر ابو جعفر الطبري: ان عدم التكلم هناكان عن عجز، سلبه اللّه القدرة على الكلام، فيما سوى التسبيح والتحميد وذلك تمحيصا له من هفوته وخطا قيله في سؤاله الاية قيل: انه لما سمع ندا الملائكة يبشرونه بيحيى جاءه الشيطان من فوره و قال له: يا زكريا، ان الصوت الذي سمعت ليس من عند اللّه، انما هو الشيطان يسخر بك قالوا: فشك زكريا في مكانه، وقال: ﴿أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَم﴾26 ومن ثم طلب من اللّه ان يجعل له آية، يرتفع بها شكه، فعاتبه اللّه على مسالته تلك وانه لا ينبغي لنبى ان يشك.
قال الطبري ـ فيما رواه ـ: انما عوقب بذلك، لان الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشرته بيحيى، فلما سال الاية بعد كلام الملائكة مشافهة، اخذ اللّه عليه بلسانه، فكان لا يقدر على الكلام الا ايماء27.
وقال القرطبي: لما بشر بالولد و لم يبعد عنده هذا في قدرة اللّه، طلب آية يعرف بها صحة هذا الامر، وكونه من عند اللّه، فعاقبه اللّه بان اصابه السكوت عن كلام الناس، لسؤاله الاية بعد مشافهة الملائكة اياه28 وهكذا اكثر المفسرين من اصحاب النقل في التفسير كابن كثير واضرابه29.
غير ان ارباب التحقيق رفضوا تلك النقول المنافية لاصول العقيدة الاسلامية، ولاسيما فيما يمس جانب عصمة الانبياء وصيانتهم عن امكان غلبة الشيطان على مشاعرهم.
قال الشيخ محمد عبده: ومن سخافات بعض المفسرين، والتي لا تليق بمقام الانبياء عليهم السلام زعمهم ان زكريا عليه السلام اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم، بوحي الشياطين، ولذلك سال سؤال التعجب، ثم طلب آية للتثبت روى ابن جرير فيما روى: ان الشيطان هو الذي شككه في نداء الملائكة، وقال له: انه من الشيطان.
قال: ولولا الجنون30 بالروايات مهما هزلت وسمجت، لما كان لمؤمن ان يكتب مثل هذا الهزء والسخف الذي ينبذه العقل، وليس في الكتاب ما يشير اليه ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا الاهذ، لكفى في جرحه، وان يضرب بروايته على وجهه فعفا اللّه عن ابن جرير، اذ جعل هذه الرواية مما ينشر.
ثم فسر الاية وفق ما فسرها ابو مسلم: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً﴾31 اي علامة تتقدم هذه العناية وتؤذن بها﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاس﴾32 اي تترك ذلك مختارا لتفرغ لعبادة اللّه33.
وهكذا في قصة ابراهيم الخليل والطيور الاربعة:﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾34.
قال الرازي: اجمع اهل التفسير على ان المراد: قطعهن غير ابي مسلم فانه انكر ذلك، وقال: ان ابراهيم عليه السلام لماطلب احيا الميت من اللّه تعالى اراه اللّه مثالا قرب اليه الامر، والمراد بـ”فصرهن اليك”: الامالة والتمرين على الاجابة، اي فعود الطيور الاربعة ان تصير بحيث اذا دعوتها اجابتك واتتك، فاذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ثم ادعهن ياتينك سعيا والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الارواح الى الاجساد على سبيل السهولة وانكر القول بان المراد منه: فقطعهن .
قال: واحتج على مذهبه بوجوه
الاول: ان المشهور في اللغة في قوله “فصرهن”: املهن اما التقطيع و الذبح فليس في الاية ما يدل عليه فكان ادراجه في الاية الحاقا لزيادة بالاية لم يدل الدليل عليه، وانه لا يجوز.
الثاني: انه لو كان المراد بـ”صرهن”: قطعهن، لم يقل: “اليك”، فان ذلك لا يتعدى بالى، وانما يتعدى بهذا الحرف اذا كان بمعنى الامالة فان قيل: لم لا يجوز ان يقال في الكلام تقديم وتاخير، والتقدير: فخذ اليك اربعة من الطير فصرهن؟ قلنا: التزام التقديم والتاخير من غير دليل ملجئ الى التزامه خلاف الظاهر.
وايضا الضمير في “ياتينك” عائد اليها لا الى اجزائه، وعلى قولكم: اذا سعى بعض الاجزاء الى بعض كان الضمير في “ياتينك” عائدا الى اجزائها لا الى الطيورانفسها35.
ثم ان الامام الرازي يذكر حجج المشهور رادا على ابي مسلم وقد نقلها صاحب تفسير المنار وضعفه، وايد مذهب ابي مسلم في تفسير الاية في شرح وتفصيل، ثم قال:
وجملة القول: ان تفسير ابي مسلم لهذه الاية هوالمتبادر الذي يدل عليه النظم، وهو الذي يجلي الحقيقة في المسالة واخذ في تقريب ذلك واخيرا قال: وللّه در ابي مسلم، ما ادق فهمه واشد استقلاله فيه36.
وهذه ايضا شهادة بشان ابي مسلم من اكبر علماء التفسير في العصر الاخير.
هذا ولامثال ابي مسلم مواقف مشرفة تجاه سائر المفسرين الظاهريين كانت نوافذ قلوب امثاله متفتحة، يسيرون في ضؤ العقل وعلى مناهج التفكير المتين.
وهذا ان دل فانما يدل على مدى قوة الاجتهاد ودوره المجيد في تفسير القرآن الكريم، والذي فتح بابه بمصراعين، نبها السلف الصالح ايام الصحابة والتابعين، واستمرت طريقتهم الحميدة، سنة حسنة متبعة حتى اليوم.
قال الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾37.
قال ـ بعد ايراد اشكال واعتراضات على ظاهر الاية ـ: اذا عرفت هذا فنقول: في تاويل الاية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد:
الاول: فما ذكره القفال38، انه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل، وبيان ان هذه الحالة هي صورة حالة هؤلا المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك.
قال: وتقرير هذا الكلام، كانه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسهازوجها انسانا يساويه في الانسانية فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما اللّه ولدا صالحا سويا، جعل الزوج والزوجة للّه شركا فيما آتاهما، لانهما تارة ينسبون ذلك الولد الى الطبائع كما هو قول الطبائعيين، وتارة الى الكواكب كما هو داب المنجمين، وتارة الى الاصنام والاوثان كما هو قول عبدة الاصنام.
ثم قال الرازي: وهذا جواب في غاية الصحة والسدادثم ذكر بقية الوجوه فراجع39.
وقد حمل العلامة جار اللّه الزمخشري آية عرض الامانة على السماوات والارض (الاحزاب:72) على ضرب من التمثيل ثم قال: ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن الا على طرقهم واساليبهم من ذلك قولهم: لوقيل للشحم: اين تذهب؟ لقال: اسوي العوج وكم وكم لهم من امثال على السنة البهائم والجمادات40.
ويروي ابن كثيرـ في تفسير قوله تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾41 باسناده الى ابن جريج عن عطاء ـ قال: هذامثل يعني انها ضرب مثل لا قصة وقعت42.
رابعا: رواج الاسرائيليات في هذا العهد.
ففي هذا الدور دخل كثير من الاسرائيليات في التفسير، وذلك لكثرة من دخل من اهل الكتاب، في الاسلام في هذا العهد بالذات، وكان لا يزال عالقا باذهانهم من الاقاصيص واساطير اسلافهم، ما يعود الى بد الخليقة واسرار الوجود وبدء الكائنات واخبار الامم الخالية واحاديث الانبياء، وكثير من القصص الاسطورية التي جات في التوارة، وسائر الكتب السالفة.
وكانت النفوس ميالة لسماع تفاصيل ما جاء اجمالها في القرآن الكريم، ولا سيما فيما يعود الى احداث يهودية او نصرانية، مما جاء في العهدين فكان المسلمون يستمعون الى اقاصيص هؤلاء، ويصغون مسامعهم الى تلكم الاساطير.
وقد تساهل التابعون ـ رغم مناهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه الكرام ـ فزجوا في التفسير بكثير من هذه الاسرائيليات، بدون تحر وتمحيص واكثر من روى عنه ذلك من مسلمي اهل الكتاب: عبد اللّه بن سلام، وكعب الاحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن جريج واضرابهم.
الامر الذي يؤخذ على التابعين مساهلتهم هذه، كما هو ماخوذ على من جاء بعدهم، وسارعلى نفس المنوال من غير روية وتحقيق43.
*التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، الشيخ محمد هادي عرفة، من منشورات الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، ط1، ص432-447.
1- و قد سبق ذلك في ترجمته.
2- راجع: ترجمته هنا.
3- الشواخ في معجم مصنفات القرآن الكريم، ج2، ص 163، رقم999.
4- فهرست مصنفي الشيعة، ص 93.
5- الشواخ، ج2، ص 161.
6- طبقات المفسرين، ج1، ص 1.
7- الطبقات للداودي، ج1، ص 176.
8- معجم المفسرين، ج1، ص 7 ـ 8.
9- هكذا ذكر الذهبي و عن سفيان: اذا جاك التفسير عن مجاهد فحسبك به وعن الاعمش:اذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ راجع: ترجمته فيما قدمنا.
10- البقرة:65.
11- الجمعة:5.
12- راجع: مجمع البيان ـ الطبرسي ـ، ج1، ص 129 والطبري، ج1، ص 263 وتفسيرمجاهد، ص 75 ـ 76.
13- المائدة:114.
14- جامع البيان للطبري، ج7، ص 87.
15- القيامة:23.
16- تفسير الطبري، ج29، ص 120 وقد اسبقنا الحديث عن ذلك ايضا في ترجمته.
17- ابن خلكان، ج3، ص 265 رقم 421.
18- راجع: الطبري، ج6، ص 82 ـ 83 والطبرسي، ج3، ص 165.
19- تهذيب التهذيب، ج7، ص 268.
20- البقرة:179
21- احكام القرآن للجصاص، ج2، ص 348.
22- طبقات المفسرين للداودي، ج1، ص 176 و ميزان الاعتدال للذهبي، ج2، ص 98، وراجع: ترجمته هنا.
23- محمد:24، النحل:44.
24- آل عمران:41.
25- التفسير الكبير، ج8، ص 40ـ 41.
26- آل عمران:40.
27- جامع البيان للطبري، ج3، ص 176 ـ 177.
28- الجامع لاحكام القرآن، ج4، ص 80.
29- راجع: تفسير ابن كثير، ج1، ص 362.
30- اي الشغف بجمع الاخبار مهما كان نمطها.
31- مريم:10
32- مريم:10
33- تفسير المنار، ج3، ص 298 ـ 299 ولسيدنا العلامة الطباطبائي هنا كلام غريب رجح راي سائر المفسرين وجوز اشتباه الامر على الانبيا لولا عنايته تعالى برفعه منهم هوعجيب منه راجع: الميزان ج 3، ص 194.
34- البقرة:260.
35- التفسير الكبير، ج7، ص 41 ـ
36- راجع: تفسير المنار، ج3، ص 56 ـ 58.
37- الاعراف:189 ـ 190.
38- توفي سنة (365 ق ).
39- التفسير الكبير، ج15، ص 86 ـ 87.
40- الكشاف، ج3، ص 565.
41- البقرة:243.
42- تفسير ابن كثير، ج1، ص 298. 1229- راجع: احمد امين فجر الاسلام، ص 205 والتفسير والمفسرون، ج1، ص 130.
43- المذاهب الاسلامية لتفسير القرآن، ص 69.