إن القرآن الكريم لم ينزل على النبي صلى الله عليه وآله دفعة واحدة، وإنما نزل تدريجا وفي أوقات مختلفة.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾1 أي كذلك نزلناه متفرقا لنثبت به فؤادك ونقويه به بإنزال الآيات في الموارد المختلفة وكلما دعت الحاجة إلى ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وآله حين يرى أن الله سبحانه يؤيده بالآيات ويبطل ما تحمله أعداؤه من أجل إبطال أمره يتشجع ويصبح أكثر اندفاعا في تبليغ الدعوة.
وقال تعالى: “ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا”2.
هذا وعد من الله سبحانه أن يأتيه بالحق على أكمل وجه وأتم صورة ليدحض به أباطيل أولئك كلما جاؤوا بكلام يعارض به كلام الله سبحانه، نظير قوله تعالى حكاية عنهم ﴿لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾3. والمراد بالأمثال هو أباطيلهم وأقوالهم التي جاؤوا بها.
ثم إن السور التي نزلت دفعة واحدة أو قيل بنزولها كذلك كثيرة ومتعددة فمنها
1- سورة المائدة
ويدل عليه ما رواه العياشي عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بآخره، وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شئ. لقد نزلت عليه وهو على بغلة شهباء وثقل عليه الوحي حتى وقعت، وتدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض، وأغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول الله فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول الله وعملنا4.
وبإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: نزلت المائدة كملا ونزل معها سبعون ألف ملك5.
ولكن السيوطي في الإتقان لم يعدها مما نزل جملة واحدة.
2- سورة الأنعام
ويدل عليه عدة روايات منها
1- ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره قال: حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: نزلت الأنعام جملة واحدة ويشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير، فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة.
2- ما رواه العياشي في تفسيره عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فعظموها وبجلوها…الخ.
3 – ما عن الطبراني بطرق مختلفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن مجاهد وعن عطاء أنها نزلت جملة واحدة6.
4 – ما رواه الحاكم في المستدرك عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق7.
5 – ما ذكره صاحب مجمع البيان عن أبي بن كعب وعكرمة وقتادة أنها كلها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا.
ولكن هناك أقوالا وروايات أخرى تدل على أنها لم تنزل جملة واحدة، بل نزلت آيات منها في المدينة وأخرى في مكة.
فإذا صحت هذه الأقوال والروايات فلابد من التأويل والقول بأن سورة الأنعام قد نزلت جملة واحدة ولكن بعض آياتها قد نزلت ثانية لما لهذه الآيات من الأهمية.
3 – سورة التوبة
ويدل عليه ما عن الثعلبي بإسناده عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ما نزل علي القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا خلا سورة البراءة وقل هو الله أحد، فإنهما نزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول: يا محمد استوص بنسبة الله خيراً8.
غير أن السيوطي في الإتقان لم يعدهما مما نزل جملة واحدة، ويؤيده ما عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن فضل عن ابن أبي عمير عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزلت هذه الآية بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة – إلى أن قال: – فلما نزلت الآيات من سورة البراءة…الخ9.
هذه الرواية خصوصا قوله عليه السلام ” فلما نزلت الآيات من سورة البراءة ” دالة على نزول هذه الآيات مجردة عن غيرها.
ويؤيده أيضا بعض الأقوال الواردة في شأن نزول الآيات مثل ما روى السيوطي في أسباب النزول عن مسلم وابن حبان وأبي داود عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج.
وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام.
وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وذلك يوم الجمعة.
ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ – إلى قوله: – لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
فظهر أن القول بعدم نزولها جملة لا يخلو عن رجحان لكثرة الآثار الدالة على نزول بعض الآيات مجردة عن غيره10.
4 – سورة المرسلات
وقد عدها في الإتقان مما نزل جمعا، ثم روى عن المستدرك عن ابن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله في غار فنزلت عليه ” والمرسلات عرفا ” فأخذتها من فيه وأن فاه رطب بها فلا أدري بأيها ختم ?فبأي حديث بعده يؤمنون? أو ?إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون?11.
ولكن السيوطي قال في أسباب النزول: أخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ قال: نزلت في ثقيف12.
وفي تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، والرواية: لا نحني فإن ذلك سبة علينا.
فقال صلى الله عليه وآله: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود.
أقول: ولكن بعد أن تردد ابن مسعود في شأن هذه السورة ولم يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وآله ختمها بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ حتى تبقى منها الآيتان، أو بقوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ حتى تتم السورة، فإن هذه الرواية لا تثبت أنها نزلت كاملة، مضافا إلى ما نقل عن مقاتل أن قوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ نزل في ثقيف، وإلى ما قال الفاضل البحراني في البرهان عند تفسير السورة أنها مكية إلا الآية 48 فمدنية.
5 – سورة الصف
حيث عدها السيوطي في الإتقان مما نزل جمعا مستندا في ذلك إلى ما رواه الحاكم في المستدرك وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله سبحانه ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ حتى ختمها. قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وآله حتى ختمها13.
لكن الموجود في المستدرك عند تفسير الصف هكذا: عن عبد الله بن سلام – إلى أن قال: – فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله فجمعنا، فجعل يؤمي بعضنا إلى بعض فقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ إلى آخر السورة.
وفي أسباب النزول للسيوطي: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ قال المسلمون: لو علمنا ما هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت “تؤمنون بالله ورسوله”.
وفي تفسير مجمع البيان نزل قوله ﴿لِمَ تَقُولُونَ﴾ في المنافقين، عن الحسن. أقول: إن الاعتبار يقتضي نزول السورة متفرقا لأن مضامينها مختلفة ولأن المفهوم منها أن بعض الآيات كانت كأنها مسبوقة بالسؤال كقوله تعالى ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ كما قيل.
وروي عن مقاتل: قوم كانوا يقولون: إذا لقينا العدو لم ننفر ولم نرجع عنهم، ثم لم يفوا بما قالوا، وانفلتوا يوم أحد حتى شج وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وكسرت رباعيته14.
6- سورة الفاتحة
وقد عدها السيوطي مما نزل جمعا ثم قال: قال ابن حبيب واتبعه ابن النقيب: من القرآن ما نزل مشيعا وهو سورة الأنعام، شيعها سبعون ألف ملك، وفاتحة الكتاب نزلت ومعها ثمانون ألف ملك15.
لكننا لم نعثر على من صرح بنزول سورة الفاتحة جملة واحدة إلا ما ذكره السيوطي. ويؤيده أن الاعتبار يقتضي نزول السور القصار دفعة كاملة.
7- سورة العاديات
لم يعدها السيوطي مما نزل جمعا ولكنه قال في أسباب النزول: أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خيلا ولبثت شهرا لا يأتيه منها خبر فنزلت ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾.
وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الحسين بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ قال: هذه السورة نزلت في أهل وادي اليابس…الخ.
وفي تفسير مجمع البيان عن مقاتل أن المنافقين قالوا: إن سرية رسول الله صلى الله عليه وآله قتلوا جميعا فنزلت السورة. وقيل: نزلت السورة لما بعث النبي صلى الله عليه وآله عليا إلى ذات السلاسل.
فظهر أن نزولها دفعة لا يخلو عن شواهد.
8- سورة الضحى
عن ابن عباس: احتبس الوحي عنه صلى الله عليه وآله خمسة عشر يوما فقال المشركون: إن محمدا صلى الله عليه وآله قد ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه فنزلت السورة16.
ونقل صاحب تفسير مجمع البيان أقوالا دالة على نزولها دفعة، ولكن السيوطي عدها مما نزل مفرقا.
وقال: إن أول ما نزل منها إلى قوله “فترضى” كما في حديث الطبراني، وقال أيضا في أسباب النزول: أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وآله فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله ﴿وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾.
وروى الحاكم في المستدرك عن حماد بن زيد عن عطية بن السائب عن سعيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال: سألت الله مسألة وددت أني لم أكن سألته، ذكرت رسل ربي فقلت: يا ربي سخرت لسليمان الريح وكلمت موسى فقال تعالى: ألم أجدك يتيما فآويتك، وضالا فهديتك، وعائلا فأغنيتك ؟ فقلت: نعم، فوددت أني لم أسأله17.
فظهر أنها مما اختلفوا في نزولها مفرقا أو جمعا.
9- سورة الإخلاص
عدها في الإتقان مما نزل جميعا. وقال في مجمع البيان في تفسير سورة الإخلاص: قيل إن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: انسب لنا ربك، فنزلت السورة، عن أبي بن كعب وجابر. وقيل: أتى عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخو لبيد النبي صلى الله عليه وآله، وقال عامر: إلى ما تدعونا يا محمد؟ فقال: إلى الله، فقال: صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة، أم من حديد أم من خشب ؟ فنزلت السورة. وأرسل الله الصاعقة على أربد فأحرقته، وطعن عامر في خصره فمات، عن ابن عباس.
وروى السيوطي في أسباب النزول عن الترمذي والحاكم وابن خزيمة من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: انسب لنا ربك، فأنزل الله ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ…الخ﴾.
أقول: هذه أيضا مما لا خلاف في أنها نزلت جمعا ويشهد عليه مضمون السورة التي كلها أوصاف لله تعالى، مضافا إلى أن الاعتبار في السور القصيرة يقتضي نزولها دفعة كاملة كما لا يخفى.
10- سورة الكافرون
لم يعدها السيوطي في الإتقان مما نزلت جمعا، ولكنه قال في أسباب النزول: أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة. قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي. فأنزل الله ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ إلى آخر السورة وأنزل ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾18.
11- سورة الكوثر
عدها في الإتقان مما نزل جمعا، وروى عن مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة فرفع رأسه متبسما، فقال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ حتى ختمها…الحديث19.
وقال في أسباب النزول: أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: بلغني أن إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وآله لما مات قالت قريش: أصبح محمد أبتر، فغاضه ذلك، فنزلت ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ تعزية له.
وفي تفسير علي بن إبراهيم: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن أبي العاص، قال عمرو: يا أبا الأبتر، وكان الرجل في الجاهلية إذا لم يكن له ولد سمي أبتر. ثم قال عمرو: إني لأشنأ محمدا، أي أبغضه، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ ُ – أي مبغضك عمرو بن العاص – هُوَ الْأَبْتَر﴾ يعني لا دين له ولا نسب.
فيظهر مما تقدم أن الكوثر نزلت دفعة. وما نقل في أسباب النزول عن البزار وعميرة بسند (قال: إنه صحيح) عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى هذا المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة، فقال: أنتم خير منه، فنزلت ” إن شانئك هو الأبتر ” فلعل الآية في ضمن السورة فلا منافاة.
12- سورة تبت
عدها في الإتقان مما نزل جمعاً. وقال في أسباب النزول: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم على الصفا فنادى: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني ؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله ” تبت يدا أبي لهب…إلى آخرها”.
ورواه صاحب مجمع البيان في تفسيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، والذي يظهر أن سورة تبت نزلت جملة واحدة، إذ أني لم أر خلافا في ذلك.
13- سورة البينة
عدها السيوطي في الإتقان مما نزل جميعا.
قال: أخرج أحمد عن أبي حية البدري قال: لما نزلت “لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب…إلى آخرها” قال جبرائيل: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا20. وإني لم أر فيها خلافاً إلا ما رواه في تفسير البرهان عن الأعمش عن عطية عن الخدري.
وقد روى الخطيب الخوارزمي عن جابر أنه لما نزلت هذه الآية ?إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك خير البرية? قال النبي صلى الله عليه وآله: علي خير البرية. وفي رواية جابر: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية21. ولكن من الممكن أن الآية نزلت في ضمن السورة الكاملة لا وحدها. حتى لا ينافي ما سبق، وأنها بجميع آياتها نزلت دفعة، فإذا لا خلاف بين الأقوال.
14- سورة النصر
عدها في الإتقان مما نزل جمعا، وقال في أسباب النزول: أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله مكة عام الفتح بعث خالد بن الوليد فقاتل بمن معه صفوف قريش بأسفل مكة حتى هزمهم الله، ثم أمر بالسلاح فرفع عنهم، فدخلوا في الدين فأنزل الله ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ حتى ختمها.
وفي الدر المنثور أيضا روى كثيرا من الأحاديث الدالة على نزول السورة جملة.
وفي تفسير علي بن إبراهيم: أنها نزلت بمنى في حجة الوداع ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ فلما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعيت إلي نفسي، فجاء إلى مسجد الخيف فجمع الناس…الخ.
وفي تفسير البرهان عن الواحدي أنه روى عكرمة عن ابن عباس قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله من غزوة خيبر وأنزل الله سورة الفتح قال: يا علي ويا فاطمة إذا جاء نصر الله والفتح…إلى آخر السورة.
وفي تفسير مجمع البيان نقل عن مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العباس فبكى…الخ.
أقول: إن الاعتبار يشهد في أمثال هذه السورة القصيرة المرتبطة المضمون على أنها نزلت جملة.
15- المعوذتان
عدهما في الإتقان مما نزلت جملة، بل السورتان نزلتا معا22، وقال في النوع الأول من الإتقان: المختار أنهما مدنيتان لأنهما نزلتا في قصة سحر لبيد بن الأعصم، كما أخرجه البيهقي في الدلائل.
وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن بكر بن محمد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان سبب نزول المعوذتين أنه وعك رسول الله صلى الله عليه وآله فنزل جبرئيل بهاتين السورتين فعوذ بهما.
وفي تفسير البرهان عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله اشتكى شكوة شديدة، ووجع وجعا شديدا، فأتى جبرئيل وميكائيل عند رجليه، فعوذه جبرئيل بقل أعوذ برب الفلق، وعوذه ميكائيل بقل أعوذ برب الناس.
فالاعتبار أيضا يشهد على نزول السورتين دفعة واحدة، فإن مضمونهما وهو الاستعاذة واحد. ثم إن الاعتبار يشهد كذلك على نزول جميع السور القصيرة دفعة واحدة.
وبهذا يتبين لنا الجواب على السؤال، والحمد لله أولا وآخراً.
*بحوث في تاريخ القرآن وعلومه، آية الله السيد أبو الفضل مير محمدي الزرندي، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، ص46-56.
1- الفرقان:32.
2- الفرقان:7-9.
3- تفسير العياشي: في تفسير سورة المائدة.
4- تفسير مجمع البيان: في تفسير سورة المائدة.
5- الإتقان: ج 1 ص 37 باب فيما نزل مفرقا.
6- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 2 ص 315.
7- مجمع البيان: في تفسير سورة التوبة.
8- تفسير البرهان: في تفسير سورة التوبة.
9- هامش تفسير الجلالين: ص 411 في تفسير سورة التوبة.
10- الإتقان: ج 1 ص 38.
11- هامش تفسير الجلالين: ص 779 في تفسير سورة المرسلات.
12- الإتقان: ج 1 ص 13.
13- مجمع البيان: في تفسير سورة الصف.
14- الإتقان: ج 1 ص 37.
15- مجمع البيان: في تفسير سورة الضحى.
16- المستدرك على الصحيحين: في سورة الضحى.
17- الإتقان: ج 1 ص 14.
18- الزمر: 64.
19- الإتقان: ج 1 ص 14.
20- مناقب الخوارزمي: ص 111.
21- الإتقان: ج 1 ص 37.
22- السيرة الحلبية: ج 3 ص 23.