أَنْتَ المرادُ في دعاء السَّحَر … لآية الله الملَكي التّبريزي (قدّس سرّه)
«أللَّهُمَّ إنَّ هَذَا الْمَقَامَ لِخُلَفَائِكَ وَأَصْفِيَائِكَ، وَمَوَاضِعَ أُمَنائِكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي اخْتَصَصْتَهُمْ بِهَا، قَدِ ابْتُزُّوهَا..».
من وَحي هذه الفجيعة الّتي يُعلنها الإمام السّجّاد عليه السّلام في دعائه يومَ الجمعة ويومَ الأضحى، يستحضر آية الله الملَكيّ التّبريزيّ، في كتابه (المراقبات)، يُتْمَ الموالي الصّادق وغربتَه لفَقد إمامه الغائب، حين يخرج لصلاة العيد، ننقل بعضاً ممّا سطّره يَراعُه بتصرّفٍ يسير.
إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَخْرُجَ إِلى صَلاةِ العيدِ مَع إمامٍ، أَوْ كُنْتَ أَنْتَ إِماماً للنّاسِ، فَعَلَيْكَ أنْ لا تَغْفلَ عَمّا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنَ المُصيبَةِ بِغَيْبَةِ إِمامِ زَمانِكَ، حَيْثَ إِنَّ صَلاةَ العيدِ حَقُّهُ الخاصُّ بِهِ، وَهِيَ مِنْ مَقاماتِهِ المَعْروفَةِ.
فَانْظُرْ إِلى ما صارَ الحالُ إِلَيْهِ حَتّى اسْتُبْدِلَتِ الصَّلاةُ مَعَ الإِمامِ، عَلَيْهِ السَّلُام، بِالصَّلاةِ مَعَكَ وَأَمْثالِكِ، وَتَفَكَّرْ في زَمَنِ حُضورِهِ، وَاجْتِماعِ المُؤْمِنينَ لِصلاتِهِ، وَصَلاتِهِمْ مَعَهُ، وَقَدِّرْ في نَفْسِكَ كَيْفَ يَكونُ حالُ المُؤْمِنِ إِذا كانَ الخَطيبُ إِمامَهُ، يُعايِنُ جَمالَهُ، وَيَسْمَعُ كَلامَهُ، وَيَتَلَقّى مِنْ عُلومِهِ.
ثُمَّ انْظُرْ إِلى ما وَرَدَ في الأَخْبارِ مِنْ بَرَكاتِ زَمَنِ حُضورِهِ وَأَنْوارِهِ، وَنَشْرِ العَدْلِ، وَطَيِّ الجَوْرِ وَالبَغْيِ، وَعِزَّةِ الإِسْلامِ، وَحُرْمَةِ القُرآنِ، وَرَواجِ الإِيمانِ، وَتَكْميلِ العُقولِ، وَتَزْكِيَةِ القُلوبِ، وَتَحْسينِ الأَخْلاقِ، وَرَفعِ الشّقاقِ، وَدَفْعِ النِّفاقِ. فَنادِهِ بِعالي صَوْتِكَ، وَتَوَجَّهْ بِلِسانِ شَوْقِكَ إِلى مُقَدَّسِ حَضْرَتِهِ: «هَلْ إِلَيْكَ يا ابْنَ أَحْمَدَ سَبيلٌ فَتُلْقى؟! مَتى يَتَّصِلُ يَوْمُنا مِنْكَ بِعِدَةٍ فَنَحْظَى، مَتى نَرِدُ مِناهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوَى، مَتى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مائِكَ فَقَدْ طالَ الصَّدى؟».
مَوْلاي، يا سَيِّدي، مَتى تَرانا وَنَراكَ، وَقَدْ نَشَرْتَ لِواءَ النَّصْرِ..؟
مَوْلاي، مَتى تَرانا وَنَراكَ فَتَقِرَّ عُيونُنا بِزيارَتِكَ، وَنَهْتَدِيَ بِهُداكَ، فَتُخْبِرَنا عَمّا أَشْكَلَ عَلَيْنا مِنْ حَقائِقِ الأُمورِ، وَتَنْحَلَّ عَلى يَدَيْكَ المُسْتَعْصياتُ مِنَ المُشْكِلاتِ، وَتَرْتَفِعَ بِكَ الجَهالاتُ، وَتتِمَّ الكَمالاتُ؟
سَيِّدي وَمَوْلاي، يا أَمَلي وَرَجائي، لَيْتَ شِعْرِي إِلامَ تصيرُ عاقِبَةُ أَمْري؟ أَتَقَرُّ عَيْني بِنورِ جَمالِكَ، وَأُرْوى مِنْ عَذبِ وِصالِكَ، أَمْ أَذْهَبُ بِهَذِهِ الغُصَصِ إِلى قَبْري، فَأَموتُ بِغُصَّةٍ بَعْدَ غُصَّةٍ، وَبِحَسْرَةٍ بَعْدَ حَسْرَةٍ؟
سَيِّدي لَوْلا ما بَلَغَنا مِنْ أَنَّ الفَرَجَ يَأتي بَعْدَ الشِّدَّةِ، لَكانَتْ هَذِهِ الشَّدائِدُ أَشَدَّ مِنْ أَنْ تَتَحَمَّلَها قُلوبُنا وَنُفوسُنا، وَلَكِنْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّها مِنْ عَلائِمِ الفَرَجِ، يَهونُ عَلَيْنا، بَلْ رُبَّما نَشْتاقُ إِلَيْها لِنَصِلَ بِها إِلَيْكُمْ.
سَيِّدي قَدْ طالَتِ المُدَدُ، وَمُدَّ الأَمَدُ، نَنْتَظِرُ أَمْرَكُمْ، وَنَحْيا بِذِكْرِكُمْ، وَنَتَرَقَّبُ آثارَ ظُهورِكُمْ.
سَيِّدي! اشْتَدَّ الأَمْرُ، وَكَثُرَ الظُّلْمُ وَالجَوْر،ُ وَ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..﴾ الرّوم:41، وَلَمْ يُرَ، مِثْلَ اليَوْمِ، فَسادٌ في الأَرْضِ؛ بَرِّها وَبَحْرِها.
..أيَا ويحَ قَلبي!
سَيِّدي إِذا تَفَكَّرْتُ في وِصالِكَ، وَلَذَّةِ لِقائِكَ، وَتَأَمَّلْتُ في أَحْوالِ مَنْ قَرَّبْتَهُمْ مِنْ جِوارِكَ، وَفَتَحْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِفْضالِكَ، وَشَرَّفْتَهُمْ بِرُؤْيَةِ جَمالِكَ، وَأَكْرَمْتَهُمْ بِتَعْليمِكَ، وَمَنَنْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ سَقَيْتَهُمْ مِنْ كَأْسِ التَّوْحيدِ، وَشَرَّفْتَهُمْ بِمَقامِ الجَمْعِ مَعَ أَهْلِ التَّوْحيدِ، كادَ أَنْ يَنْصَدِعَ قَلْبي مِنَ الحَسْرَةِ، وَيَنْشَقَّ فُؤادي مِنَ الغيرَةِ.
آهٍ آهٍ، «أَيا وَيْحَ قَلْبي مَنْ بِهِ مِثْلُ ما بيا؟!».
سَيِّدي! لَيْسَ حالُ طالِبي حَضْرَتِكَ كَأَحْوالِ سائِرِ المُشْتاقينَ، لِأَنَّ جَمالَكَ لا يُقاسُ بِجَمالِ سائِرِ المَعْشوقينَ، وَجَلالَكَ لَيْسَ كَسائِرِ الجَلالاتِ، إِذْ لَيْسَ مَطْلوبٌ وَمَحْبوبٌ، غَيْرَكَ، هُوَ عِلَّةُ إِيجادِ مُحِبِّهِ وَطالِبِهِ، مُحْتاجٌ إِلَيْهِ، في كُلِّ حالاتِهِ، في جَميعِ شُؤونِهِ، بَلْ لَيْسَ في عالَمِ الحِسِّ جَمالٌ إِلّا وَهُوَ مَظْهَرُ شَيْءٍ مِنْ جَمالِكَ، وَلا جَلالٌ إِلّا وَهُوَ أثَرٌ مِنْ آثارِ جَلالِكَ… لِأَنَّ جَمالَكَ مَظْهَرُ جَمالِ اللهِ الجَميلِ، وَجَمالَ غَيْرِكَ مِنْ مَظاهِرِ جَمالِكَ، وَهَكذا جَلالُكَ مَظْهَرُ جَلالِ (اللهِ) الجَليلِ، وَجَلالُ غَيْرِكَ مُقْتبَسٌ مِنْ جَلالِكَ، وَأَنْتَ أَصْلُ كُل ِّجَمالٍ وَجَلالٍ، وَأَنْتَ المُرادُ بِأَبْهى البَهاءِ، وَأَجْمَلِ الجَمالِ، وَأَجَلِّ الجَلالِ في دُعاءِ السَّحَرِ، وَأَنْتَ نورُ اللهِ الأَنْوَرُ، وَضِياؤُهُ الأَزْهَرُ.
وَأَيْضاً، لَيْسَ هَجْرُكَ وقِلاكَ مِثْلَ هَجْرِ غَيْرِكَ مِنَ المَطْلوبينَ، لِأَنَّ مَهْجورَ غَيْرِك يَنسُبُ الهَجْرَ إِلى المَطْلوبِ وَلا مَلامَ عَلَيْهِ في هَجْرِ مَحْبوبِهِ إِيّاهُ، وَمَهْجوركَ ملومٌ في نَفْسِهِ، وملومٌ عِنْدَ النّاسِ وَلا سَلْوَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَنسُبَ إِلَيْكَ أَنَّكَ غَيْرُ وَفِيٍّ، أَوْ أَنَّكَ غَيْرُ مُحِبٍّ لِمُحِبِّكَ؛ وَجَميعُ مُحِبّيكَ يَعْتَقِدونَ أَنَّ حُبَّكَ وَوَفاءَكَ لهم، أَكْثَرُ مِنْ حُبِّهِمْ وَوَفائِهِمْ لك، فَإِذا هَجَرْتَهُمْ يَكْشِفُ ذَلِكَ عَنْ تَقْصيرِهِمْ، وَقُصورُ حُبِّهِمْ يَكْشِفُ عَنْ عَدَمِ تَمْييزِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ، فَمَهْجورُكَ أَخْسَرُ الخاسِرينَ، إِلّا أَنْ يُسِلِّيَ نَفْسَهُ بِالتَّسْويفِ، وَطَلَبِ زِيادَةِ الثَّوابِ، وَلَكِنْ أَيُّ ثَوابٍ عِنْدَ المُحِبِّ أَعْظَمُ مِنْ لِقائِكَ؟!
مَوْلاي! فِداكَ جَميعُ مَن سِواك، «بِنَفْسي أَنْتَ مِنْ أَثيلِ مَجْدٍ لا يُجَارى، بِنَفْسي أَنْتَ مِنْ نَصيفِ شَرَفٍ لا يُسَاوى، إِلى مَتى أَحارُ فيكَ يا مَوْلاي؟ وَإِلَى مَتى؟ وَأَيّ خِطابٍ أَصِفُ فيكَ وَأَيّ نَجْوى..»، عَزيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى غَيْرَكَ مُتَصَرِّفاً في مَمْلَكَتِكَ، حاكِماً في رَعِيَّتِكَ، بِمَرْأى مِنْكَ وَمَسْمَعٍ، وَهُمْ يَلوذونَ وَيَسْتَغيثونَ بِكَ فَلا يُجابونَ.
سلطانُ الكافرين، وكَيدُ المُخالفين
سَيِّدي! هَذِهِ مَمالِكُنا دَخَلَتْ إليها الكُفّارُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِنا، يَحْكُمونَ فينا وَفي أَنْفُسِنا وَأَمْوالِنا بِما يُريدونَ، وَهَذا سُلْطانُنا كَالأَسيرِ المُمْتَهَنِ، فَيا لله مِنْ هَذِهِ المَصائِبِ الفَجيعَةِ، وَالشّدائِدِ المُهْلِكَةِ، فَإنّا للهِ وَإنّا إِلَيْهِ راجِعونَ، مِنْ مُصيبَةِ فَقْدِكَ وَطولِ غَيْبَتِكَ، وَقَدْ صارَ حالُ شيعَتِكَ كَقُطْعانِ غَنَمٍ غابَ عَنْها راعيها، وَشَدَّتْ عَلَيْها الذِّئابُ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، تَأْخُذُ مِنْها ما تُريدُ أَكْلَهُ، وَتَقْتَلُ الباقي لِمَنْ بَعْدَها.
سَيِّدي! هَذِهِ مَصائِبُنا، وَالّذي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْها أَوْجَعُ لِنُفوسِنا، وَآلَمُ لِقُلوبِنا مِمّا يَصِلُ إِلَيْنا، لِأَنّا نَعْلَمُ رَأْفَتَكُمْ بِشيعَتِكُمْ، وَغيرَتَكُمْ، وَرِقَّةَ قَلْبِكُمْ، أَلَيْسَ جَدُّكَ أَميرُ المُؤْمِنينَ يَشْكو مِمّا أَخَذَهُ عَسْكرُ مُعاوِيَةَ بْنِ أَبي سُفْيانَ مِنْ خَلْخالِ الذِّمِّيَّةِ، وَيقولُ:«فَلَوْ أَنَّ مُؤْمِناً ماتَ مِنْ دونِ هَذا أَسَفاً ما كانَ عِنْدي مَلوماً..» فَكَيْفَ بِكُمْ إِذا عَلِمْتُمْ ما يُفْعَلُ بِالمُسْلِماتِ مِنَ السَّبْيِ؟ ساعَدَ اللهُ قَلْبَكَ يا مَوْلاي، إِلى اللهِ المُشْتَكى، وَإِلى سَيِّدِ الوَرى مُحَمَّدٍ المُصْطَفى، وَإِلى عَلِيٍّ المُرْتَضى، وَإِلى سَيِّدَةِ النِّساءِ، وَإلى آبائِكَ الطّاهِرينَ أَئِمَّةِ الهُدى وَلُيوثِ الوَغى، وَإِلى حَمْزَةَ سَيِّدِ الشُّهَداءِ، وَإلى الطَّيّارِ في المَلَأِ الأَعْلى، مِنْ هَذا الخَطْبِ العَظيمِ، وَالشَّأْنِ الفَظيعِ.
فَأَغِثْ، يا غِياثَ المُسْتَغيثينَ، عَبيدَك المُبْتلَينَ، وَأَرِهِمْ سَيِّدَهُمْ يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ، وَأَزِلْ عَنْهُمْ بِهِ ظُلْمَ الظّالِمينَ، وَسُلْطانَ الكافِرينَ، وَكَيْدَ المُخالِفينَ، وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ بِفَرَجِ وَلِيِّكَ سُلْطانِ السَّلاطينَ، سَيِّدِ الخَلائِقِ أَجْمَعينَ، وَامْلَأِ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً وَقَدْ مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً.
وَأَقِرَّ عُيونَ المُؤْمِنينَ بِجَمالِ وَلِيِّ الدّينِ، وَأَوْفِرْ نَصيبَهُمْ بِظُهورِ جَلالِهِ في العالَمينَ، وَأَظْهِرْ عَدْلَكَ الأَعْظَمَ، وُسْلطانَكَ الأَجَلَّ الأَفْخَمَ، فَأَقِمْ بِهِ الحَقَّ، وَادْحَضْ به الباطِلَ، وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِياءَكَ، وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْداءَكَ، وَانْتَقِمْ بِهِ مِنْ ظالِمي أَوْلِيائِكَ، وَمُعانِدي أَصْفِيائِكَ، وَعَجِّلْ بِإِظْهارِ ما وَعَدْتَهُ مِنْ نَصْرِ المُؤْمِنينَ، وَالعاقِبَةِ للمُتَّقينَ، يا أَصْدَقَ الصّادقِينَ، وَيا أَقْدَرَ القادِرينَ.