لا اختلاف في هذا القرآن
لا يشك أحد في أن هذا القرآن الذي بين أيدي المسلمين على اختلاف طوائفهم وفي كل صقع ومكان لا يختلف ولا يتفاوت في أي كلمة منه، بل في أي حرف. وهذه هي ملايين النسخ من القرآن الكريم التي تطبع في بلاد أهل السنة مثلا يتداولها المسلمون الشيعة في بلادهم، نظرا لجودة طبعها وحسن إخراجها وخلوها من الأغلاط. ونرى أن الحاج الشيعي يرى أن خير هدية مباركة يهديها إلى أحب أصدقائه هو القرآن الكريم، ويقبله هذا منه حامدا شاكرا دون أن يشكل عليه بأنه مطبوع في غير بلاد الشيعة، ولا يخطر في باله وجود أي تفاوت بينه وبين غيره من المصاحف الشريفة. بل نرى أن ما يطبع في بلاد الشيعة – كإيران – قد قوبل أولا مع النسخ المصرية ويكتب في أوله: إنه قوبل مع القرآن السلطاني (أي الذي كتب في عصر السلطان سليم العثماني، بعد فتحه مصر بإشراف لجنة التحقيق المصرية). ولم نجد أحدا يشك أو يقول بأن مصحف السني غير مصحف الشيعي مثلا – استنادا إلى قول بعض القدماء ممن انقرض عصرهم ومرت عليهم القرون – لم نجد من يقول ذلك، حتى من أولئك الذين يقدسون كل قديم، حتى ولو كذبه الواقع الملموس.
قرآنية ما بين الدفتين
ولا إشكال أيضا في أن ما بين الدفتين قرآن يجب العمل به، ولم أجد أحدا من علماء الإسلام يعترض على ذلك أو يرتاب فيه، في مختلف الأعصار والأمصار، حتى أولئك الذين ادعوا أو نسب إليهم القول بأن هذا القرآن ليس هو كل ما انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم يصرحون بأن هذا الموجود يجب العمل والاعتماد عليه، ولا تجوز مخالفته بحال من الأحوال. وإليك بعض كلمات هؤلاء على الخصوص على سبيل المثال، والدالة على أنهم يقولون بحجية هذا القرآن الموجود بأنه كتاب الله المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
1- قال الشيخ المفيد في المسائل السروية: إن الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله وتنزيله – إلى أن قال: – قد صح عن أئمتنا عليهم السلام أنهم قد أمروا بقراءة ما بين الدفتين، وأن لا يتعداه إلى زيادة فيه ولا نقصان منه1.
2- وقال الفيض الكاشاني – بعد نقله لأخبار التحريف -: فالأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها، ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو الموجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته، لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه2.
3- وقال أبو الحسن الشريف جد صاحب الجواهر – بعد كلامه حول التحريف -: إن صحة أخبار التغيير والنقص لا يستلزم الطعن على ما في هذه المصاحف، بمعنى عدم منافاة بين وقوع هذا النوع من التغيير وبين التكليف بالتمسك بهذا المغير، والعمل على ما فيه3.
4- وقال الشيخ الميرزا حسين النوري في أواخر فصل الخطاب – في الجواب على الدليل السادس القائل: إنه لو سقط منه شئ لم تبق ثقة في الرجوع إليه، قال في الجواب عن جملة ما قال -: هذا مضافا إلى إرشاد الأئمة إلى التمسك بها، وتقريرهم الأصحاب عليه، وتمسكهم بها في غير واحد من الموارد كاشف عن عدم سقوط ما يوجب الإجمال في الموجود في آيات الأحكام، وغير مناف للسقوط في غيرها، وفيها بما لا يضرها.
هذا بالإضافة إلى ما نقله الشيخ آقا بزرك الطهراني رحمه الله (مؤلف الذريعة) عنه، مما سمعه من لسانه في أواخر أيامه، حيث قال عن كتابه فصل الخطاب: إني أثبت فيه أن كتاب الإسلام الموجود بين الدفتين المنتشر في أقطار العالم وحي إلهي بجميع سوره وآياته لم يطرأ عليه تغيير أو تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، وقد وصل إلينا بالتواتر القطعي، ولا شك لأحد من الإمامية فيه، فبعد ذا أمن الإنصاف أن يقاس الموصوف بهذه الصفات بالعهدين أو الأناجيل المعلومة أحوالها؟!4
5- وقال الآخند ملا محمد كاظم الخراساني: ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو، إما بإسقاط أو بتصحيف وإن كانت غير بعيدة كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار، إلا أنه لا يمنع عن حجية ظواهره…الخ5.
هذه كلمات من قال أو نسب إليه القول بالتحريف أو النقيصة، وهي صريحة في أنهم قائلون بحجية هذا الموجود بلا ريب، وبأنه وحي إلهي يجب إتباعه، من دون حدوث خلل فيه، أو في ظاهر آياته.
ما يقوله الأخباريون
وأما ما نسب إلى الأخباريين من المناقشة في حجية ظواهر الكتاب التي لم يرد فيها تفسير عن أهل البيت عليهم السلام فهو لجهات أخرى – غير جهة التحريف – مثل استنادهم إلى الأخبار المانعة عن التفسير بالرأي، المروية عن النبي والأئمة عليهم السلام حيث اعتبروها شاملة للعمل بظاهر القرآن، والقول بأنه مراد لله تعالى، وأجيبوا عن ذلك في محله:
أولا: بأن حمل الظاهر على ظاهره ليس تفسيرا بالرأي، لأن التفسير هو كشف القناع، ولا قناع للظاهر.
وثانيا: لو سلم فهو ليس من التفسير بالرأي.
وكيف كان، فكلامهم ناظر إلى أمر آخر لا يرتبط بالتحريف أصلا.
وإذا كان لم يوجد ولا يوجد إن شاء الله تعالى من يشك في القرآن الموجود ولا في حجيته أصلا حتى من القائلين أو المنسوب إليهم القول بالتحريف أو بالنقيصة، بل الكل قائلون بحجية هذا القرآن وقرآنيته وأنه كلام الله – فلا يبقى للبحث عن التحريف قيمة أصلا، بل يكون بحثا علميا صرفا لا يهم أحدا ولا يستفيد منه أحد، سواء في طرف الإثبات أو في طرف النفي على حد سواء. إذا فلا أهمية لذكر أدلة التحريف أو أدلة عدمه، ولا لإطالة الكلام فيها، ولا لمعرفة من يقول بالتحريف أو يقول بعدمه.
ومع ذلك، فنحن نذكر أدلة كل من الطرفين، ونلاحظ مقدار دلالتها على مطلوبهم.
أدلة التحريف ومناقشتها
1- الأحاديث الكثيرة الدالة على أن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة حذو القذة بالقذة، ومطابق النعل بالنعل، وحيث إن بني إسرائيل قد حرفوا كتابهم – على ما يصرح به القرآن الكريم والروايات المأثورة – فلابد إذا من أن يقع ذلك في هذه الأمة، فيحرفوا كتابهم.
فمنها: ما في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه…الخ6.
والرواية على ما قاله العلامة الطباطبائي مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة…ومستفيضة أيضا من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في تفسير القمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، ولا تخطئون طريقتهم شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع، حتى أن لو كان من قبلكم دخل حجر ضب لدخلتموه7.
وأجيب عن هذا بأن ما يقع في هذه الأمة لا يلزم أن يكون مماثلا في جميع الجهات لما وقع في بني إسرائيل، بل يكفي المماثلة له في الجملة.
ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: إجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم8.
فإن من المعلوم أن سؤال المسلمين نبيهم لا يتفق مع سؤال بني إسرائيل نبيهم في جميع الجهات، بل هو شبيه له في الجملة، وهذا شاهد واضح على أنه يكفي في المماثلة اتحاد القضيتين في الجملة. فلعل المراد – كما قيل – أن هذه الأمة تشبه بني إسرائيل في الكتاب من جهة أنها سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة تحتج لما تذهب إليه بالكتاب الكريم، وهو ليس إلا من جهة تحريفهم الكلم عن مواضعه، أي تفسيره بتفسيرات بعيدة عن مضمونه المقصود.
2- إن كيفية جمع القرآن وتأليفه تستلزم عادة وقوع التغيير والنقص فيه، حيث إن أبا بكر قد أمر زيد بن ثابت بجمعه من الألواح وصدور الرجال، وأن لا يكتب آية فيه إلا بشهادة شاهدين على أنها من القرآن، ومن المعلوم أن زيدا وغيره لم يكونوا معصومين، ويحتمل أن لا يقف على جميع القرآن، لاحتمال بقاء بعض الآيات عند بعضهم.
وأجيب بأن القرآن الذي بين أيدينا قد جمع في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي حياته، وكانت المصاحف تكتب من ذلك الذي جمع في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، لا من صدور الصحابة بشهادة شاهدين، أو شاهد واحد إذا كان ذا الشهادتين. وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب يكتبون الوحي القرآني، ويؤلفون القرآن من الرقاع بين يديه. وأما أبو بكر فإنما أمر زيدا بجمع الأوراق المتفرقة في الرقاع في مصحف واحد.
قال أبو شامة: وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا من مجرد الحفظ9.
وقد قدمنا القول في بحث “من جمع القرآن؟” فراجع.
3- إنه قد ذكر أكثر أهل السنة وجماعة من الشيعة أن النسخ على ثلاثة أقسام: أحدها نسخ التلاوة، ورووا أخبارا كثيرة دالة على وجود آيات قرآنية ليس في هذا القرآن الموجود منها عين ولا أثر، ويقولون: إنها مما نسخت تلاوته.
ونذكر منها آية واحدة على سبيل المثال: فقد روى مسلم بسنده عن عائشة أنها قالت: كان فيما انزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهن فيما يقرأ من القرآن10.
قال في هامش صحيح مسلم: العبارة قاصرة عما أراده، فإن مراده أن عشر رضعات نسخن بخمس رضعات تلاوة وحكما، ثم نسخ هذا الناسخ وبقي حكمه، كآية الرجم.
قال المستدل: هذه الرواية ونظائرها تدل على سقوط آيات من القرآن، وحيث إنا لا نقول بنسخ التلاوة تعين القول بسقوطها منه عمدا، أو عن غير عمد.
والجواب: أنه إذا ثبت نسخ التلاوة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنحن نقبله، وإن لم يثبت فاللازم هو حمل هذه الروايات على أن المراد هو أن هذه الكلمات مثل قوله “عشر رضعات” أو “خمس رضعات” هي من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا من القرآن، وقد اتفق مثل ذلك لبعض الصحابة كما قيل، فقد نسب إلى أبي بن كعب أنه كتب الدعاء وهو “اللهم إنا نستعينك ونشهد…الخ” في مصحفه، وسماه سورة الخلع والحفد، لورود مادة هاتين الكلمتين فيه. وفي قبال هذا ما يذكرونه عن عبد الله بن مسعود من أنه قال: إن المعوذتين ليستا من القرآن، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوذ بهما الحسن والحسين، فظن أنهما دعاء وليستا من القرآن.
وخلاصة القول: إن من الممكن أن يشتبه على البعض بعض كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن أو بالعكس، كما حصل في الأعصار السابقة لبعضهم، وقد حكي عن ابن عباس أنه كان يشك في بعض كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها من القرآن، وأنه قال مرة بعد نقله لحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم: فلا أدري أمن القرآن هو أم لا؟11.
4- إنه قد ورد أنه كان لأمير المؤمنين علي عليه السلام قرآن مخصوص، جمعه بنفسه بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، وعرضه على القوم، فأعرضوا عنه، فحجبه عنهم، والمعروف أنه كان مشتملا على أبعاض ليست موجودة في هذا القرآن الذي بين أيدينا.
وأجيب بأن زيادة قرآنه عليه السلام على ما في هذا القرآن الموجود وإن كانت متيقنة لكن من الذي قال: إن هذه الزيادة كانت في القرآن نفسه، فلعلها كانت تفسيرا بعنوان التأويل، أي ما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله تعالى شرحا لمراده، كما في الأحاديث القدسية، لا بعنوان القرآن المعجز.
5- إن عثمان بن عفان لما استولى على أمر الأمة جمع المصاحف المتفرقة، واستخرج منها نسخة سماها ب “الإمام”، وأحرق ومزق سائر المصاحف، ولم يفعل ذلك إلا لإعدام ما تبقى فيها.
وأجيب بأن عثمان إنما جمع الناس على قراءة واحدة.
وعن الحارث المحاسبي: أن المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار بينه وبين من شهد من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات12.
فعثمان على هذا لم ينقص من القرآن شيئا، بل حمل الناس على قراءة واحدة، والظاهر أنها هي القراءة الموجودة في عصرنا.
6- وقد استدل على وجود النقيصة في القرآن الكريم بأخبار دالة على أن ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من هذا القرآن الموجود.
منها: ما رواه الشيخ الكليني بسند معتبر عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن القرآن الذي جاء به جبرئيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبعة عشر ألف آية13.
وحيث إن الآيات القرآنية لا تزيد على ستة آلاف آية إلا بقليل فإن النتيجة تكون أن القرآن قد نقص قريب من ثلثيه.
ومنها: ما رواه السيوطي عن الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا: القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف، فمن قرأه محتسبا كان له بكل حرف زوجة من الحور العين.
قال السيوطي: رجاله ثقات إلا شيخ الطبراني، وتكلم فيه الذهبي14.
مع أن حروف القرآن الموجود لا تبلغ ثلث هذا العدد، مما يعني أنه قد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.
ومنها: ما عن ابن بابويه بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يا ابن سنان، إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب، وكانت أطول من سورة البقرة، ولكن نقصوها وحرفوها15.
ومنها: ما عن حذيفة قال: قال لي عمر بن الخطاب: كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت: ثنتين أو ثلاثا وسبعين.
قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها لآية الرجم16.
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على أن الموجود ليس هو كامل ما انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأجيب عن هذه الروايات
تارة بما عليه أهل السنة من نسخ تلاوة بعض الآيات. فلو فرض صحة هذه الروايات يقال: إنها ناظرة إلى موارد نسخت تلاوتها.
وأخرى بما قاله بعض المحققين من حملها على ما تقدم في معنى الزيادة في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام، وإلا فلابد من طرحها، لمخالفتها للكتاب والسنة.
7- الأخبار التي تصرح بوقوع التحريف في القرآن، وهي عديدة:
فمنها: ما رواه الشيخ الصدوق عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يجئ يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة.
يقول المصحف: يا رب حرفوني ومزقوني، ويقول المسجد: يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة: يا رب قتلونا وطردونا17.
ومنها: ما عن عبد الأعلى قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أصحاب العربية يحرفون كلام الله عز وجل عن مواضعه18. وثمة روايات أخر بهذا المضمون.
وأجيب: أما عن رواية عبد الأعلى فبأنها ظاهرة في اختلاف القراءات، وأما عن غيرها فبأن المراد من التحريف لعله حمل الآيات على غير معانيها، ويؤيده ما عن الإمام الباقر عليه السلام في رواية يقول فيها: وكان من نبذهم الكتاب أنهم أقاموا حروفه وحرفوا حدوده19.
هذه خلاصة أدلة القائلين بالتحريف والجواب عنها.
أدلة القائلين بعدم التحريف
وقد بقي أن نجمل أدلة القائلين بعدم التحريف وعدم النقص، ونذكر أنها غير تامة أيضا. فلابد من التطلع إلى أدلة قاطعة أخرى على ذلك، لا يتطرق إليها الاحتمال ولا تتعرض للمناقشة. وأدلة هؤلاء وما يرد عليها نجملها على النحو التالي:
1- استدلوا بقوله تعالى ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾20 إذ المراد من الذكر هو القرآن، والمراد من حفظه إبقاءه على ما كان عليه وكما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلو فرض إسقاط آية منه فلا يكون حينئذ محفوظا من قبل الله، ولم يف الله بما وعد (والعياذ بالله).
وأجيب بأنه من الممكن أن يحفظ الله كتابه عند إمام – كعلي عليه السلام – حتى لا يضيع، والإمام عليه السلام وهو رئيس الإسلام ينتفع به ويعلم الناس ما استفاده منه، ثم يرثه إمام آخر، وهكذا إلى آخر الأئمة ينتفعون به ويعلمون الناس ما يستنبطونه منه، ويكون الكتاب حينئذ محفوظا، ويستفيد الناس منه بشكل طبيعي.
وهذا الوجه وإن لم يكن قطعيا لكنه احتمال وارد، والاحتمال يضر بالاستدلال.
ثم عقب المستدل كلامه هنا بآية أخرى، وهي قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾21.
ولا شك أن التحريف باطل، فلا سبيل لتطرقه إلى القرآن الكريم.
وأجيب أيضا بأن معنى “لا يأتيه الباطل” لا يعرض لهذا القرآن الباطل لا قبل وجوده في الزمان السابق عليه ولا بعد وجوده فيما يستقبل من الزمان.
لأن القائل بإسقاط آيات من القرآن لا يقول ببطلان ما بقي بين الدفتين بسبب السقوط منه، بل هو يعتبره قرآنا ونورا يجب العمل به، ولا فرق بينه وبين ذلك الكامل في أي أثر أو كرامة واحترام، كما تقدم.
2- هناك طوائف من الأحاديث الكثيرة الدالة على أن ما بين الدفتين تمام ما انزل، من دون نقيصة أو تحريف، وهي:
الطائفة الأولى: الأخبار الواردة في بيان الثواب لسور القرآن الكاشفة عن عدم تحريف السور لأنه لا معنى للثواب على قراءة السور المحرفة.
الثانية: الأخبار الدالة على لزوم عرض الأخبار مطلقا، أو عند تعارضها على كتاب الله، حيث إنه لا معنى لعرض الأخبار على القرآن المحرف، مما يكشف عن صحته وعدم وقوع التحريف فيه.
الثالثة: الأخبار الدالة على وجوب التمسك بالقرآن، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي22. وأسانيدها لا تقبل المناقشة عند أحد من المسلمين. فلو كان الكتاب محرفا لما كان للتمسك به معنى.
ولكن من الواضح أن هذه الأخبار جميعها على اختلاف طوائفها إنما صدرت لإعطاء الحجية للكتاب الموجود بين الدفتين، ولكنها لا تدل على أنه تمام ما انزل من دون وقوع نقص فيه، إذ لا منافاة بين النقص والحجية. والقائلون بالتحريف والنقص يقولون بحجية وقرآنية ما بين الدفتين كما تقدم، وستأتي بعض الأخبار الدالة على حجيته.
3- إنه لو سقط من القرآن لم تبق ثقة في الرجوع إليه.
وأجيب بأن الأدلة الآتية لإثبات حجية الكتاب الموجود دالة على حجيته والوثوق به، وهو أعم من بقاء القرآن حسب ما انزل من دون وقوع نقيصة فيه، إذ من الممكن أن يكون الساقط غير مخل سقوطه في ظهور الباقي فيما يراد منه.
4- إن شدة الاهتمام والضبط في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده في حفظ الكتاب أخرج سقوط شئ منه عن مجرى العادة.
وأجيب بأن ذلك ينتقض في كثير من الأحكام التي كانت دواعي حفظها وضبطها أوفر وأكثر لعامة المسلمين من حفظ كل آية آية من القرآن. وذلك مثل الأذان الذي يسمعه الرجال والنساء والصبيان أكثر من مرة يوميا، ومع ذلك فقد اتفقت كلمة الإمامية على أن من أجزائه وأجزاء الإقامة “حي على خير العمل”. وأجمع أهل السنة بعد شيوع التعليم فيهم على خلاف ذلك. وكالوضوء، فإنه شرع من يوم شرعت الصلاة في أول البعثة، كما وأنه يستحب لغايات كثيرة أخرى، وكان الصحابة يشاهدون وضوءه صلى الله عليه وآله وسلم في غالب الأوقات، ومع ذلك فقد وقع فيه الكلام والخلاف بين المسلمين، وعلى هذه فقس ما سواها.
تلك كانت عمدة أدلة القائلين بالتحريف والجواب عنها، وأدلة القائلين بعدمه والمناقشات فيها. ولكن لما كان هذا البحث علميا صرفا لا تترتب عليه أية نتيجة عملية لأن الكل مجمعون على حجية هذا القرآن وقرآنيته فلا نرى في بسط الكلام في هذا الموضوع مزيد فائدة، فالأولى صرف عنان الكلام إلى إثبات قرآنية هذا القرآن الموجود بالبراهين والأدلة القاطعة، فنقول:
أدلة حجية هذا القرآن وقرآنيته
إن عمدة الأدلة في المقام هي: السيرة العملية القطعية من عصر جمع القرآن إلى زماننا هذا من المسلمين بأجمعهم، من دون شك أو تردد من أحد على الإطلاق. وكان أئمة أهل البيت عليهم السلام يستدلون باستمرار بهذا القرآن على ما يريدون ويرشدون إلى طريق الاستفادة منه، فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال لزرارة حينما سأله زرارة: من أين علمت أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ قال: لمكان الباء23.
وكذا المسلمون ما زالوا يقرأون هذا القرآن، بما فيه من السور والآيات، تقربا إلى بارئهم وامتثالا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ سورة كذا أعطي من الحسنات كذا وكذا.
وكذلك ما زالوا يجدون في هذا القرآن الموجود ما وصفه الله تعالى به من الإعجاز في أحكامه وعدم الاختلاف في آياته، وأنه في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة التي تعجز عنها العقول البشرية.
وكذلك هم يحترمونه ويكرمونه، فلا يلمسونه إلا على الطهارة، حتى تلك الآيات التي ادعي نسخ حكمها.
إلى غير ذلك من الآثار والأحكام القرآنية التي يرتبونها عليه، وهذا مما يدركه كل مسلم منصف سليم الدين والفطرة.
هذا هو مجمل القول في هذا الدليل، وتفصيل ذلك بمقدار ما يسمح به المجال. وأن مما يدل على ذلك روايات كثيرة في موضوعات مختلفة، متفرقة في الكتب الحديثية ونخص بالذكر منها أبواب قراءة القرآن، التي عقدها الحر العاملي في وسائله، وهذا موجز عن بعضها:
1- باب وجوب تعلم القرآن.
وفيه: قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: يا سعد، تعلموا القرآن، فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق.
2- باب وجوب إكرام القرآن.
وفيه: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين إذا هم بشخص قد أقبل، لم ير قط أحسن صورة منه، فإذا نظر إليه المؤمنون – وهو القرآن – قالوا: هذا منا.
3- باب استحباب التفكر في معاني القرآن.
وفيه: قال الصادق عليه السلام: إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى.
4- باب استحباب حفظ القرآن.
وفيه: قال أبو عبد الله عليه السلام: الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة.
5- باب استحباب تعلم القرآن في الشباب.
وفيه: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه.
6- باب أنه لا يجوز ترك القرآن تركا يؤدي إلى النسيان.
وفيه: إن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، إني كنت قرأت القرآن ففلت مني، فادع الله عز وجل أن يعلمنيه، قال: فكأنه فزع لذلك، ثم قال: علمك الله هو وإيانا جميعاً.
7- باب استحباب الطهارة لقراءة القرآن.
وفيه: عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته: أقرأ القرآن ثم يأخذني البول، فأقوم وأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف، فاقرأ فيه؟ قال: لا، حتى تتوضأ للصلاة.
8- باب استحباب الاستعاذة عند التلاوة.
وفيه: عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن التعوذ من الشيطان عند كل سورة يفتتحها؟ قال: نعم، فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وكأنه عليه السلام أشار بقوله: ” فتعوذ…الخ ” إلى قوله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾24. وفي الحديث: من تأدب بأدب الله (الاستعاذة عند قراءة القرآن) أداه إلى الفلاح الدائم.
9- استحباب ختم القرآن بمكة.
وفيه: عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: من ختم القرآن بمكة من جمعة إلى جمعة، أو أقل من ذلك أو أكثر وختمه في يوم الجمعة كتب الله له من الأجر كذا وكذا.
10- باب استحباب القراءة في المصحف.
وفيه: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره، وخفف على والديه وإن كانا كافرين.
11- ثم هناك بقية الأبواب المختلفة.
التي تبلغ إلى 51 بابا، الكاشفة على سبيل القطع عن أن الموجود بين الدفتين وما كان بأيدي صحابة الأئمة قرآن وحجة يجب العمل به واحترامه والاستضاءة بنوره.
يضاف إلى ذلك كله ما ورد في كتب غير الإمامية كالذي في الصحاح الستة وغيرها عندهم مما أخرجوه في فضائل القرآن، والحث على تعلم وقراءة هذا الموجود، وتكريمه وتعظيمه.
مثل ما رواه البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه25.
وواضح أن عثمان كان يهدف من نقله هذا الحديث عن النبي إلى حث الناس على تعلم وتعليم هذا القرآن المجموع الذي كتبه أبو بكر من الصحف التي جمعت في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم هناك الروايات الكثيرة الدالة على أن الحديث يوافق كتاب الله يؤخذ ويعمل به، والذي يخالفه يطرح ويضرب به عرض الجدار، وقد عقد لها الفيض الكاشاني في كتابه ” الوافي ” بابا جمع فيه أحاديث كثيرة: منها: ما عن الكافي بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال: إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه.
ومنها: ما عن الكافي أيضا بسنده عن ابن أبي يعفور أنه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به.
ومنهم من لا نثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث.
فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلا فالذي جاء به أولى به (أي ردوه إليه).
ومنها: من عن الكافي.
عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله تعالى فهو زخرف26.
إلى غير ذلك مما يدل على وجوب عرض الأحاديث على كتاب الله تعالى، مما يكشف عن أن هذا القرآن الموجود في عصر الصادق عليه السلام هو كتاب الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو عليه مدار تعيين الصادق من الكاذب من الأحاديث.
يضاف إلى ذلك كله ما ورد من أوامر صدرت منهم يوجبون فيها على بعض الرواة: أن يقرأ كما يقرأ الناس، ولها تعبيرات مختلفة، ففي بعضها: اقرأوا كما علمتم.
وفي بعضها: اقرأوا كما تعلمتم.
وفي ثالثة: حينما قال له الراوي: أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرأ الناس، قال عليه السلام: اقرأ كما يقرأ الناس27.
فهي تأمر بقراءة هذا القرآن الشائع والمعروف بين الناس، وترك ما سمعه الراوي مما ليس معروفا.
وهكذا يتضح بعد هذه الجولة أن هذا القرآن حجة دامغة، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الميزان بين الحق والباطل والصحيح من الحديث والموضوع، بلا شبهة في ذلك ولا ريب.
والحمد لله وصلاته على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.
*بحوث في تاريخ القرآن وعلومه، آية الله السيد أبو الفضل ميرمحمدي الزرندي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، ص272-287.
1- المسائل السروية للشيخ المفيد: ص 78 و 81.
2- تفسير الصافي: ج 1 المقدمة السادسة.
3- تفسير مرآة الأنوار: ص 50 المطبوع قبل الجزء الأول من تفسير البرهان.
4- مستدرك الوسائل: المقدمة في ترجمة المؤلف النوري.
5- كفاية الأصول: ص 284 طبع مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
6- صحيح البخاري: ج 3 ص 1274 ح 3269 من كتاب أحاديث الأنبياء.
7- تفسير الميزان: ج 12 ص 110 نقلا عن تفسير القمي: في أول تفسير سورة الانشقاق.
8- سنن الترمذي (الجامع الصحيح): ج 4 ص 475.
9- نقله عنه السيوطي في الإتقان: ج 1 ص 60.
10- صحيح مسلم: ج 4 ص 167.
11- صحيح مسلم: ج 3 ص 100.
12- الإتقان: ج 1 ص 61.
13- الكافي: ج 2 ص 633 باب النوادر من كتاب فضل القرآن ح 28.
14- الإتقان: ج 1 ص 72.
15- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 137 في ثواب من قرأ سورة الأحزاب.
16- منتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد): ج 2 ص 1.
17- الخصال للشيخ الصدوق: باب الثلاثة ح 232.
18- مستدرك الوسائل: ج 4 ص 280 ح 4701 نقلا عن التنزيل والتحريف.
19- الكافي: ج 8 ص 53 في رسالة الإمام الباقر عليه السلام إلى سعد الخير.
20- الحجر: 9.
21- فصلت: 41 و 42.
22- سنن الترمذي: ج 5 ص 662 ح 2786 و 2788 ، صحيح مسلم: ج 4 ص 1874 ح 36 و 37 ، ينابيع المودة: ج 1 ص 95 ح 126 ، الكافي: ج 2 ص 415 باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أو كافرا أو ضالا من كتاب الإيمان والكفر ح 1 ، وغيرها من مصادر الفريقين.
23- وسائل الشيعة: ج 1 ص 291 ب 23 من أبواب الوضوء ح 1.
24- النحل: 98.
25- صحيح البخاري: ج 4 ص 1919 ح 4740.
26- الوافي: ج 1 ص 67 باب العقل والعلم. وراجع الكافي: ج 1 ص 69 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب من كتب فضل العلم ح 1 و 2 و 3.
27- وسائل الشيعة: ج 4 ص 821 ب 74 من أبواب القراءة ح 3 و 2 و 1.