ذكر التاريخ أن أبا بكر لما أراد جمع القرآن، أمر عمر وزيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد، وأن يكتبا ما شهد شاهدان على أنه من كتاب الله، وفي هذا شهادة على أن القرآن ليس خارقا للعادة، لانه لو كان خارقا للعادة بنفسه لم يحتج إلى الشهادة عليه، ولكان بنفسه شاهدا على نفسه.
الجواب
أولا: إن القرآن معجزة في بلاغته واسلوبه، لا في كل كلمة من كلماته، وإذن فقد يقع الشك في تحريف بعض الكلمات المفردة، أو في زيادتها ونقصانها.
وشهادة الشاهدين إذا صحت أخبارها إنما هي لرفع هذه الاحتمالات التي تعرض من سهو القارئ أو من عمده، على أن عجز البشر عن الاتيان بسورة من مثل القرآن لا ينافي قدرتهم على الاتيان بآية، أو ما يشبه الاية، فإن ذلك أمر ممكن، ولم يدع المسلمون استحالة ذلك، ولم يذكره القرآن عند التحدي بالمعارضة.
ثانيا: إن هذه الاخبار التي دلت على جمع القرآن في عهد أبى بكر بشهادة شاهدين من الصحابة، كلها أخبار آحاد: لا تصلح أن تكون دليلا في أمثال ذلك.
ثالثا: إنها معارضة بأخبار كثيرة دلت على أن القرآن قد جمع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان كثير من الصحابة يحفظ جميع القرآن. وأما الحافظون منهم لبعض سوره وأجزائه فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى. على أن النظرة العقلية البسيطة تشهد بكذب تلك الاخبار التي استدل بها الخصم. فإن القرآن هو السبب الاعظم في هداية المسلمين، وفي خروجهم من ظلمات الشقاء والجهل إلى نور السعادة والعلم، وقد بلغ المسلمون في العناية بالقرآن الدرجة القصوى، فقد كانوا يتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار، وكانوا يتفاخرون في حفظه واتقانه ويتبركون بسوره وآياته، والنبي يحثهم على ذلك. فهل يحتمل عاقل بعد هذا كله أن يقع الشك فيه عندهم حتى يحتاج إثباته إلى شاهدين ؟. وسنثبت – إن شاء الله تعالى – فيما يأتي ان القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم وقالوا:
إن للقرآن اسلوبا يباين أساليب البلغاء المعروفة، فقد خلط بين المواضيع المتعددة، فبينا هو يتكلم في التاريخ إذا به ينتقل إلى الوعد والوعيد، إلى الحكم والامثال، إلى جهات اخرى. ولو كان القرآن مبوبا يجمع في كل موضوع ما يتصل به من الآيات، لكانت فائدته أعظم، وكانت الاستفادة منه أسهل.
الجواب
إن القرآن أنزل لهداية البشر، وسوقهم إلى سعادتهم في الاولى والاخرى، وليس هو بكتاب تاريخ، أو فقه، أو أخلاق. أو ما يشبه ذلك ليعقد لكل من هذه الجهات بابا مستقلا. ولا ريب في أن اسلوبه هذا أقرب الاساليب إلى حصول النتيجة المقصودة، فإن القارئ لبعض سور القرآن يمكنه أن يحيط بكثير من أغراضه، وأهدافه في أقرب وقت وأقل كلفة، فيتوجه نظره إلى المبدأ والمعاد، ويطلع على أحوال الماضين فيعتبر بهم. ويستفيد من الاخلاق الفاضلة، والمعارف العالية، ويتعلم جانبا من أحكامه في عباداته ومعاملاته. كل ذلك مع حفظ نظام الكلام، وتوفية حقوق البيان، ورعاية مقتضى الحال. وهذه الفوائد لا يمكن حصولها من القرآن إذا كان مبوبا، لان القارئ لا يحيط بأغراض القرآن إلا حين يتم تلاوة القرآن جميعه، وقد يعوقه عائق عن الاتمام فلا يستفيد إلا من باب أو بابين.
ولعمري ان هذه إحدى الجهات المحسنة لاسلوب القرآن، الذي حاز به الجمال والبهاء، فإنه مع انتقاله من موضوع إلى موضوع يتحفظ على كمال الربط بينهما، كأن كل جملة منه درة في عقد منتظم، ولكن بغض الاسلام أعمى بصر هذا المستشكل وأصم سمعه، حتى توهم الجمال قبحا، والمحاسن مساوئ. على أن القرآن قد كرر بعض القصص مرارا بعبارات مختلفة، حسب المناسبات المقتضية للتكرار، فلو جمعت تلك العبارات كلها في باب واحد لا نتفت تلك الفائدة الملحوظة، وكان التكرار لغير فائدة ملموسة للقارئ.
سخافات وخرافات
ذكر كاتب رسالة “حسن الايجاز”1 في رسالته هذه أنه يمكن معارضة الكتاب حتى يتوهم أنها وافية بمعناها؟ أو لم يكف هذا الكاتب جهله بفنون البلاغة حتى دل الناس على عيوبه بالجهر بها؟!!. وكيف تصح المقايسة بين قوله ” الحمد للرحمن ” مع قول الله تعالى:﴿الْحَمْدُ للّهِ﴾2.
وقد فوت بجملته هذه المعنى المقصود من قول الله تعالى. فإن كلمة ” الله ” علم للذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال، ومن صفات الكمال الرحمة التي أشار اليها في البسملة، فذكر كلمة “الرحمن” يوجب فوت الدلالة على بقية جهات الكمال المجتمعة في الذات المقدسة، والتي يستوجب بها الحمد من غير ناحية الرحمة. وكذلك استبدال قوله: “رب الاكوان” بقوله تعالى:﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾3.
فإن فيه تفويتا لمعنى هاتين الايتين، فإن فيهما دلالة على تعدد العوالم الطولية والعرضية، وأنه تعالى مالك لجميعها ومربيها، وأن رحمته تشمل جميع هذه العوالم على نحو مستمر غير منقطع، كما يدل عليه ذكر لفظ “الرحيم” بعد لفظ “الرحمن”.
وأين من هذه المعاني قول هذا القائل: “رب الاكوان؟” فإن الكون معناه الحدوث والوقوع والصيرورة والكفالة4 وهو بجميع هذه المعاني معنى مصدري لا يصح إضافة كلمة الرب اليه وهي بمعنى المالك المربي. نعم يصح إضافة كلمة الخالق اليه. فيقال: خالق الاكوان. على أن لفظ الاكوان لا يدل على تعدد عوالم الموجودات الذي يدل عليه لفظ العالمين، ولا على سائر الجهات التي تدل عليها الآية الكريمة. وكذلك استبداله جملة “الملك الديان” بقول الله تعالى: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾5.
مع أن جملته تلك لا تدل على وجود عالم آخر لجزاء الاعمال، وأن الله تعالى هو مالك ذلك اليوم، وليس فيه لاحد تصرف ولا اختيار، وأن الناس كلهم في ذلك اليوم تحت حكم الله تعالى ينفذ فيهم أمره، فبعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار. وغاية ما تدل عليه جملته تلك أن الله ملك يجازي بالاعمال، وأين هذا من معنى الآية الكريمة؟! أما قوله تعالى:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾6.
فقد فهم هذا الكاتب من معناه أن العبادة لا بد من أن تكون لله، وأن الاستعانة لا تكون إلا به تعالى، فأبدلها بقوله: “لك العبادة، وبك المستعان” وقد فاته أن المقصود بالآية تلقين المؤمن أن يظهر توحيده في العبادة، وحاجته وافتقاره إلى إعانة الله عز وجل في عباداته وسائر أعماله، وأن يعترف بأنه وجميع المؤمنين لا يعبدون غير الله، ولا يستعينون بأحد سوى الله، بل يعبدونه وحده ويستعينون به. وأين هذا من عبارة هذا الكاتب على أنها ليست أخصر من الاية المباركة؟!! وقوله تعالى:﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾7.
أراد به طلب الهداية إلى أقرب طريق يوصل سالكه إلى مقاصده، من أعماله وملكاته وعقائده، ولم يحصره بطريق الايمان فقط، وهذا لا يفي به قول الكاتب ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾. على أن معنى هذه الجملة طلب الهداية إلى طريق الايمان، ولا دلالة فيها على أن ذلك الطريق مستقيم لا يضل سالكه.
وقد استغنى الكاتب بجملته هذه عن بقية السورة المباركة، وزعم أن هذه البقية غير محتاج اليها، وهذا يدل على قصوره عن فهم معناها. فإن قوله تعالى:﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾8.
فيه دلالة على وجود طريق مستقيم سلكه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ووجود طرق اخرى غير مستقيمة سلكها المغضوب عليهم، من المعاندين للحق، والمنكرين له بعد وضوحه، والضالون الذين ضلوا طريق الهدى بجهلهم، وتقصيرهم في الفحص عنه، وفي اقتناعهم بما ورثوه من آثار آبائهم، فاتبعوهم تقليدا على غير هدى من الله ولا برهان. والقارئ المتدبر لهذه الاية الكريمة يتذكر ذلك فيحضر في ذهنه لزوم التأسي بأولياء الله المقربين في أعمالهم، وأخلاقهم وعقائدهم، والتجنب عن مسالك هؤلاء المتمردين الذين غضب الله عليهم بما فعلوا، والذين ضلوا طريق الحق بعد اتضاحه، وهل يعد هذا المعنى من الامور التي لا يهتم بها كما يتوهمه هذا الكاتب؟!!.
وذكر في معارضة سورة الكوثر: قوله: “إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وجاهر، ولا تعتمد قول ساحر” انظر كيف يقلد القرآن في نظمه وتركيبه ويغير بعض ألفاظه، ويوهم الناس أنه يعارض القرآن ثم انظر كيف يسرق قوله هذا من مسيلمة الكذاب الذي يقول: ” إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، وإن مبغضك رجل كافر”. ومن الغريب أنه توهم أن المشابهة في السجع بين الكلامين تقتضي مشاركتهما في البلاغة، ولم يلتفت إلى أن إعطاء الجواهر لا تترتب عليه إقامة الصلاة والمجاهرة بها. وأن لله على عبده نعما عظيمة هي أشرف وأعظم من نعمة المال، كنعمة الحياة والعقل والايمان، فكيف يكون السبب الموجب للصلاة لله هو إعطاء المال دون تلك النعم العظيمة؟! ولكن الذي يستأجر بالمال للتبشير يكون المال قبلته التي يصلي اليها، وهدفه الذي يسعى إلى تحصيله، وغايته التي يقدمها على كل غاية “وكل إناء بالذي فيه ينضح”.(البيان – 7).
ولسائل أن يسأل هذا الكاتب عن معنى كلمة “الجواهر” التي جاء بها معرفة بالالف واللام، فإن أراد بها جواهر معينة فليست في اللفظ قرينة تعين هذه الجواهر المقصودة، وإن أراد بها جميع الجواهر الموجودة في العالم من حيث أن الجمع المعرف بالالف واللام يدل على الاستغراق فهو كذب صريح. وما هو وجه المناسبة بين الجملتين السابقتين وبين قوله: “ولا تعتمد قول ساحر”. وما هو المراد من لفظ ساحر، ومن قوله الذي لا يعتمد عليه؟ فإن أراد به ساحرا معينا، وقولا مخصوصا من أقواله، كان عليه أن ينصب قرينة على هذا التعيين. وليس في جملته هذا ما يصلح للدلالة عليه، وإن أراد به كل قول لكل ساحر لانهما نكرتان في سياق النهي لزوم اللغو في هذا الكلام، لانه لا يوجد سبب معقول لعدم الاعتماد على قول كل ساحر، ولو كان هذا القول في الامور الاعتيادية مع الاطمئنان بقوله. وإن أراد أن لا يعتمد قول الساحر بما هو ساحر فهو غلط، لان الساحر من حيث هو ساحر لا قول له، وإنما يسحر الناس ويفسد عليهم حالهم بحيله وأعماله.
وأما سورة الكوثر فقد نزلت في من شنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنه أبتر وسيموت وينقطع دينه واسمه، وقد أشار إلى ذلك بقوله تعالى:﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾9.
فأنزل الله تبارك وتعالى:﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾10.
وهو الخير الكثير من جميع الجهات. أما في الدنيا فشرف الرسالة، وهداية الخلق وزعامة المسلمين، وكثرة الانصار، والنصر على الاعداء. وكثرة الذرية – من بضعته الصديقة الطاهرة – التي توجب بقاء اسمه ما دامت لدنيا باقية.
وأما في الآخرة فالشفاعة الكبرى، والجنان العالية، والحوض الذي لا يشرب منه إلا هو وأولياؤه إلى ما سوى ذلك من نعم الله عليه.
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾11.
شكرا له على هذه النعم، والمراد بالنحر: النحر بمنى، أو نحر الاضحية في الاضحى، أو رفع اليدين إلى النحر في تكبير الصلاة، أو استقبال القبلة بالنحر، والاعتدال في القيام، وجميع ذلك يناسب المقام لانه نحو من الشكر لتلك النعم. وقد أنزل الله سبحانه:﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾12.
فلا يبقى له اسم ولا رسم، فكانت العاقبة لهؤلاء الشانئين ما أخبر الله عنهم، فلم يبق لهم اسم ولا ذكر خير في الدنيا زيادة على جزائهم في الاخرة من العذاب الاليم، والخزي الدائم. وهل تقاس هذه السورة المباركة في معانيها السامية، وبلاغتها الكاملة بتلك الجمل الساقطة التي أجهد هذا الكاتب بها نفسه فقلد القرآن في نحوه تركيبه، وأخذ من مسيلمة الكذاب ألفاظها وأسلوبها، وأتى بها كما شاء له العناد، بل كما شاء له الجهل الفاحش ليعارض بها عظمة القرآن في بلاغته وإعجازه؟!
*البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ص91-98.
1- كتيب صدر من المطبعة الانكليزية الامريكانية ببولاق مصر سنة 1912.
2- الفاتحة:2.
3- الفاتحة:3.
4- راجع لسان العرب.
5- الفاتحة:4.
6- الفاتحة:5.
7- الفاتحة:6.
8- الفاتحة :7.
9- الطور:30.
10- الكوثر:1.
11- الكوثر:2.
12- الكوثر:3.