هناك من حسب من تاويل القرآن شيئا وراء المفاهيم الذهنية اوالتعابير الكلامية، وكان من نمط الاعيان الخارجية، وكان ما ورد في القرآن من حكم وآداب وتكاليف واحكام كلها تعود اليه، اذ تنتزع منه وتنتهي اليه في نهاية المطاف، فكان ذلك تاويلا للقرآن في جميع آياته الكريمة.
وقد اختلفوا في تبيين تلك الحقيقة التي تعود اليها جميع الحقائق القرآنية في اصول معارفه والاحكام:
ذكر ابن تيمية ـ في رسالة وضعها بشان المتشابه والتاويل ـ: ان التاويل في عرف المتاخرين صرف اللفظ عن معناه الراجح الى معنى مرجوح، لدليل يقترن به فالتاويل ـ على هذا ـ يحتاج الى دليل، والمتاول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يدعيه، وبيان الدليل الموجب للصرف اليه عن المعنى الظاهر.
قال: واما التاويل ـ في عرف السلف ـ فله معينان: احدهما: ما يرادف التفسير والبيان، وهو الذي عناه مجاهد بقوله: ان العلماء يعلمون تاويل القرآن، اي تفسيره وتبيينه.
والثاني: نفس المراد بالكلام، ان كان طلبا فتاويله نفس العمل المطلوب، وان كان خبرا فتاويله نفس الشي المخبر به.
قال: وبين هذا المعنى ـ الاخير ـ والذي قبله ـ الذي جاء اولا في عرف السلف، والذي جاء في عرف المتاخرين ـ بون، فان الذي قبله يكون التاويل فيه من باب العلم والكلام كالتفسير والشرح والايضاح ويكون وجود التاويل في القلب واللسان، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي.
واما هذا ـ المعنى الثاني في عرف السلف ـ فالتاويل فيه نفس الامور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية اومستقبلة فاذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعه.
قال: وهذا الوضع والعرف الثالث ـ الذي جاء ثانيا في عرف السلف ـ هولغة القرآن التي نزل بها1.
وقال في تفسير سورة الاخلاص ـ بعد كلام تفصيلي له عن تاويل المتشابه من الايات، وان الراسخين في العلم يعلمون تاويله، واستعظام ان يكون جبرائيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعون لهم باحسان وائمة المسلمين لا يعرفون تاويل متشابه القرآن، ويكون اللّه تعالى قد استاثر بعلم معاني هذه الآيات كما استأثربعلم الساعة، وانهم جميعا كانوا يقرأون الفاظا لا يفهمون لها معنى، كما يقرأ احدنا كلاما ليس من لغته فلا يعرف معناه، من قال ذلك فقد كذب على القوم، والماثور عنهم متواترا يناقض هذا الزعم، وانهم يفهمون معنى المتشابه كما يفهمون معنى المحكم ـ قال بعد ذلك:
فان قيل: هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التاويل الذي يراد به التفسير، وبين التاويل الذي في كتاب اللّه.
قيل: لا يقدح في ذلك، فان معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصوره في القلب، غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج، المرادة بذلك الكلام.
فان الشيء له وجود في الاعيان، ووجود في الاذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البيان فالكلام لفظ له معنى في القلب، ويكتب ذلك اللفظ بالخط فاذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب وعبر عنه باللسان، فهذاغير الحقيقة الموجودة في الخارج، وليس كل من عرف الاول عرف عين الثاني.
مثال ذلك: ان اهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخبره ونعته، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره، وتاويل ذلك هو نفس محمد المبعوث، فالمعرفة بعينه معرفة تاويل ذلك الكلام.
وكذلك الانسان قد يعرف الحج والمشاعر، كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة، ويفهم معنى ذلك ولايعرف الامكنة حتى يشاهده، فيعرف ان الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله:﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾2 وكذلك ارض عرفات وغيره.
وكذلك الرؤيا يراها الرجل، ويذكر له العابر تاويلها فيفهمه ويتصوره، ثم اذا كان ذلك فهو تاويل الرؤي، ليس تاويلها نفس علمه وتصوره وكلامه، ولهذا قال يوسف الصديق:﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ﴾3 وقال: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا﴾4 فقد انباهما بالتاويل قبل ان ياتي التاويل، فنحن نعلم تاويل ما ذكر اللّه في القرآن من الوعد والوعيد، وان كنا لا نعرف متى يقع هذا التاويل المذكور في قوله تعالى:﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾5.
وقد اشاد السيد محمد رشيد رضا (منشئ مجلة المنار المصرية) من هذه النظرة التيمية بشان تاويل القرآن، واعجبته غاية الاعجاب قال ـ بعد ان نقل عن شيخه الاستاذ محمد عبده، ان التاويل بمعنى ما يؤول اليه الشي وينطبق عليه، لا بمعنى ما يفسر به6ـ: ليس في كتب التفسير المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسالة، وما ذكرناه آنفا هو صفوة ما قالوه، وخيرة كلام الاستاذ الامام وقد راينا ان نرجع بعد كتابته الى كلام في المتشابه والتاويل، لشيخ الاسلام احمد بن تيمية، فرجعنا اليه وقراناه بامعان، فاذا هو منتهى التحقيق والعرفان، والبيان الذي ليس وراه بيان، اثبت فيه انه ليس في القرآن كلام لا يفهم معناه، وان المتشابه اضافي اذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ، وان التاويل الذي لا يعلمه الا اللّه تعالى هو ما تؤول اليه تلك الايات في الواقع،ككيفية صفاته تعالى، وكيفية عالم الغيب، وكيفية قدرته تعالى وتعلقها بالايجاد والاعدام، وكيفية استوائه على العرش ولا كيفية عذاب اهل النار، ولا نعيم اهل الجنة، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾7 فليست نار الاخرة كنار الدني، وانما هي شيء آخر وليست ثمرات الجنة ولبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم، وانما هو شيء آخر يليق بذلك العالم ويناسبه .
قال: واننا نبين ذلك بالاطناب الذي يحتمله المقام، مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم، ناقلين بعض ما كتبه8 وجعل ينقل ما سرده ابن تيمية باسهاب .
وهذا الذي ذكره ابن تيمية واشاد به رشيد رض، لا يعدوما يعود اليه امر الشيء، اخذا بالمفهوم اللغوي لمادة التاويل اما العين الخارجية بالذات فلعله من اشتباه المصداق بالمفهوم، فان الوجود العيني للاشياء هي عين تشخصاتها المعبر عنها بالمصاديق الخارجية، ولم يعهد اطلاق لفظ “التاويل” على المصداق في متعارف الاستعمال الا ان يكون من عرفهما الخاص، ولا مشاحة في الاصطلاح .
وعلى اى تقدير، فانهما لم ياتيا بشيء جديد، فان مسالة الوجودات الاربعة للاشياء (الذهني واللفظي والكتبي والعيني) امر تعارف عليه ارباب المنطق منذ عهد قديم، الا ان الشيء الذي لم يتعارف عليه هواطلاق اسم “التاويل” على العين الخارجية، باعتبارها مصداقا للوجودات الثلاثة المنتزعة عنه، سوى كونه مصطلحا جديدا غير معروف .
ولسيدنا العلامة الطباطبائي كلام تحقيقي لطيف حول مسالة التاويل، يراه متغايرا مع المفاهيم، بعيدا عن جنس الالفاظ والمعاني والتعابير، وانما هي حقائق راهنة، موطنها خارج الاذهان والعبارات .
انه رحمه الله تعرض لكلام ابن تيمية، فصححه من جهة، وخطاه من جهة اخرى، صححه من جهة قوله: بشمول التاويل لجميع آي القرآن، محكمه ومتشابهه، وقوله: بانه خارج الاذهان والعبارات لكن خطاه في حصره للتاويل في العين الخارجية البحت، فانه مصداق وليس بتاويل انما التاويل حقائق راهنة، هي مصالح واقعية واهداف وغايات مقصودة من وراء التكاليف والاحكام، وكذا الحكم والمواعظ والاداب، وحتى القصص والاخبار والاثار التي جات في القرآن .
قال مناقشا لراي ابن تيمية
“انه وان اصاب في بعض كلامه، لكنه اخطاء في بعضه الاخر انه اصاب في القول: بان التاويل لا يختص بالمتشابه، بل هوعام لجميع القرآن، وكذا القول: بان التاويل ليس من سنخ المدلول اللفظي، بل هو امر خارجي يبتنى عليه الكلام لكنه اخطاء في عد كل امر خارجي مرتبط بمضمون الكلام ـ حتى مصاديق الاخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة ـ تاويلاً للكلام“9.
ثم قال: “الحق في تفسير التأويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية، من حكم او موعظة او حكمة، وانه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهه، وانه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالالفاظ، بل هي من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ وانما قيدها اللّه سبحانه بقيد الالفاظ لتقريبها من اذهاننا بعض التقريب، فهى كالامثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح، بحسب مايناسب فهم السامع، كما قال تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾10.
وقال في شرح الاية
“ان هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروءاً عربي، وانما البس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس، والا فانه ـوهو في ام الكتاب ـ عند اللّه على لا تصعد اليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل فالكتاب المبين ـ في الاية ـ هواصل القرآن العربي المبين، وللقرآن موقع هوفي الكتاب المكنون، وان التنزيل حصل بعده، وهوالذي عبر عنه بام الكتاب وباللوح المحفوظ فالكتاب المبين الذي هواصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل، امر وراء هذا المنزل، وانما هذا بمنزلة اللباس لذاك ان هذا المعنى، اعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة الى الكتاب المبين، ونحن نسميه بحقيقة الكتاب، بمنزلة اللباس من المتلبس، وبمنزلة المثال من الحقيقة، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام“11.
واضاف: “فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام او بيان معرفة من المعارف الالهية اووقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية، وان لم تكن امرا يدل عليه بالمطابقة نفس الامر والنهي او البيان او الواقعة الكذائية، الا ان الحكم او البيان او الحادثة، لما كان كل منها ينشأ منها ويظهر منه، فهو اثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والاشارة“12.
وأخيراً لخص كلامه في بيان التاويل بما يلي
“التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يتضمنها الشيء ويؤول اليها ويبتني عليه، كتاويل الرؤي، وهو تعبيره، وتاويل الحكم، وهو ملاكه، وتاويل الفعل، وهو مصلحته وغايته الحقيقية، وتأويل الواقعة، وهو علتها الواقعية، وهكذا“13.
غير ان وقفة فاحصة عند كلام هذا المحقق العلامة، تجعلنا نتردد في التوافق معه، انه رحمه الله لو كان اقتصر على مالخصه اخير، من جعل ملاكات الاحكام والمصالح والغايات الملحوظة في التشريعات والتكاليف تاويل، اي اصلا لها ومرجعها الاساسي لكل ذلك المذكور، لأمكننا مرافقته.
لكنه توسع في ذلك، وفرض من تاويل آي القرآن كلها امرا بسيطا ذا احكام رصينة، ليس فيه شيء من هذه التجزئة والتفصيل الموجود في القرآن الحاضر الذي يتداوله المسلمون منذ اول يومهم فالى ما لا نهاية، فان ذاك عار عن كونه آية آية وسورة سورة، وجودا واحدا بسيطا صرف، مستقرا في محل ارفع، في كتاب مكنون لا يمسه الا المطهرون .
وفرض من القرآن ذا وجودين: وجودا ظاهريا يتشكل في الفاظ وعبارات ذوات مفاهيم معروفة، وهو الذي يتلى ويقرا ويدرس، ويتداوله الناس حسبما الفوه طوال عهد الاسلام.
ووجودا آخر باطني، هو وجوده الحقيقي الاصيل، المترفع عن ان تناله العقول والاحلام، فضلا عن الاوهام، وذلك الوجود الحقيقي الرفيع هو تاويل القرآن، اي اصله ومرجعه الاصيل.
قال ـ بصدد بيان نزول القرآن دفعة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان، وانه لم يكن هذا القرآن المتلوالذي بايدي الناس، فانه نزل تدريجا بلا ريب:
“والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب امر آخر، فان الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان اوفي ليلة القدر انما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة، دون التنزيل، واعتبار الدفعة اما بلحاظ المجموع اوالبعض، واما لكون الكتاب ذا حقيقة اخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي، الذي يقضي فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج، هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل، وهذا هو اللائح من الايات الكريمة: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾14 فان هذا الاحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هوجعله فصلا فصلا وقطعة قطعة، فالاحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء، ولا يتميز بعض من بعض، لرجوعه الى معنى واحد لا اجزءا فيه ولا فصول والاية ناطقة بان هذا التفصيل المشاهد في القرآن، انما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصل، واوضح منه قوله تعالى:﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾15 فانه ظاهر في ان هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربي، وانما البس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس، والا فانه في ام الكتاب عند اللّه علي لا يصعد اليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل فالكتاب المبين الذي هواصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل امر وراء هذا المنزل وانما هذا بمنزلة اللباس لذاك16.
ثم احال تمام الكلام الى بيانه الاتي حول آية المتشابهات، قال هناك
“الحق في تفسير التاويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية، وانه موجود لجميع الايات، وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ، وانما قيدها اللّه بقيدالالفاظ لتقريبها من اذهانن، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾17 وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى18.
وبعد، فلنتسائل: ما هو السبب الداعي لفرض وجودين للقرآن الكريم: وجودا لديه تعالى في كتاب مكنون، لا يمسه الا المطهرون، عاريا عن التجزئة والتفصيل، متعاليا عن شبكات الالفاظ والعبارات، ووجودا ارضيا نزل تدريجا لهداية الناس، والبس لباس العربية لعلهم يعقلونه؟ ولعله للنظر الى قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾19 وقوله:﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍأَمْرًا مِّنْ عِندِنَا﴾20 وقوله:﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر﴾21.
وقد ورد في الحديث ـ من طرق الفريقين ـ: ان القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر، ثم نزل تدريجا طوال عشرين عاما”22.
ولذلك فرض علامتنا الطباطبائي وجودين للقرآن الكريم ونزولين وكان نزوله الدفعي بوجوده البسيط الذي كان بمنزلة الروح لهذا القرآن، النازل تدريجا بوجوده التفصيلي .
وبذلك نراه قد جمع بين ظواهر الايات ودلالة الروايات، وايد ذلك بالفارق اللغوي بين لفظتي “الانزال” و”التنزيل”.
لكن تشريف شهر رمضان انما كان بنزول هذا القرآن المعهود لدى المخاطبين بهذا الخطاب، لا بأمر لا يعرفونه على ان القرآن النازل في هذا الشهر، قد وصف بكونه﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾23 ومعلوم ان الهداية والبينات، انما هي بهذا الكتاب الذي يتداولونه، لا بكتاب مكنون عند اللّه محفوظ لديه في مكان علي لا تناله الايدي والابصار.
كما ان الذي يبتغيه اهل الزيغ لاجل الفساد في الارض، هو تفسير الآيات على غير وجهه، لا وجودا آخر للقرآن، هو في اعلى عليين .
فقوله رحمه الله: “وانه موجود لجميع الآيات محكمها ومتشابهه، وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ” غير مفهوم لنا.
والفرق بين “الانزال” و”التنزيل” امر ابدعه الراغب الاصبهاني، ولا شاهد له .
قال: وانما خص لفظ الانزال دون التنزيل، لما روي ان القرآن نزل دفعة واحدة الى سماء الدني، ثم نزل نجما فنجما ولفظ الانزال اعم من التنزيل، قال: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل﴾24 ولم يقل: لونزلن،تنبيها انا لوخولناه مرة ما خولناك مرارا.
ويرد عليه ما حكاه اللّه عن قولة العرب: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾26.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّه﴾26.
وقوله:﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾27.
وقوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ﴾28.
وقوله:﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً﴾29.
كما جمع بين التعبيرين بشان امر واحد في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾30.
كما جاء استعمال “الانزال” بشان التدريجيات ايضاً:
﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُم﴾31.
﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾32.
لان الكتاب الذي منه محكم ومتشابه، هو هذا الكتاب الذي نزل تدريجا ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً﴾33، اذ الذي نزل مفصلا هو هذا القرآن الذي نزل منجما.
واخيرا فما هي الفائدة المتوخاة من وراء نزول القرآن دفعة واحدة الى السماء الدنيا او الى السماء الرابعة، في البيت المعمور او بيت العزة ـ على الاختلاف في الفاظ الروايات ـ، ثم نزوله بعد ذلك تدريجا في طول عهد الرسالة؟.
وهل لوجود القرآن بوجوده البسيط الروحاني ـ في ذلك المكان الرفيع ـ فائدة تعودعلى اهل السماوات او سكان الارضين؟.
واجاب الفخر الرازي عن ذلك، وعلل وجود القرآن هناك، في مكان انزل من العرش واقرب الى الارض، ليسهل التناول منه لجبرائيل عند مسيس الحاجة34.
وعلل بعض الاساتذة المعاصرين ذلك، بان الرابط بين ذلك القرآن المحفوظ لديه تعالى، وهذا القرآن المعروض على الناس، هو “رابط العلية” فكل ما في هذا القرآن من حكم ومواعظ وآداب، وتعاليم ومعارف واحكام، انما تنشأ مما حواه ذلك القرآن، على بساطته وعلورفعته، فهذا اشعاع من ذلك النور الساطع، وافاضة من ذلك المقام الرفيع35.
غير ان هذا كله تكلف في التاويل، وتمحل في القول بلا دليل، ولعلنا في غنى عن البسط فيه والتذييل .
واما الايات التي استندوا اليها لاثبات وجود آخر للقرآن محفوظ عنداللّه، في كتاب مكنون لا يمسه الا المطهرون فهي تعني امرا آخر غير ما راموه .
وليعلم ان المقصود من الكتاب المكنون، هو: علم الله المخزون، المعبر عنه بـ(اللوح المحفوظ) ايض، وهكذاالتعبير بـ(ام الكتاب) كناية عن علمه تعالى الذاتي الازلي، بما يكون مع الابد.
وقد ذكر العلامة الطباطبائي ـ في تفسير سورة الرعد حديثا عن الامام الصادق عليه السلام قال: “كل امر يريده اللّه، فهو في علمه قبل ان يضعه، وليس شي يبدو له الا وقد كان في علمه” قال ذلك تفسيرا لقوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾36.
فقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾37 يعني قضى اللّه في علمه الازلي الحتم ان القرآن ـ في مسيرته الخالدة ـ سوف يشغل مقاما علي، مترفعا عن ان تناله ايدي السفهاء، حكيما مستحكما قوائمه، لا يتضعضع ولا يتزلزل، يشق طريقه الى الامام بسلام38.
وكذا قوله:﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾39 اي هكذا قدر في علمه تعالى المكنون40.
وهكذا ذكر الطبرسي وغيره في تفسير قوله تعالى:﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾41 انه اشارة الى مقامه الرفيع عند اللّه، وقد جرى في علمه تعالى انه محفوظ عن مناوشة المناوئين .
قال سيد قطب: “انه لقرآن كريم: كريم بمصدره، وكريم بذاته، وكريم باتجاهاته في كتاب مكنون: مصون، وتفسير ذلك في قوله تعالى بعده: لا يمسه الا المطهرون فقد زعم المشركون ان الشياطين تنزلت به، فهذا نفي لهذاالزعم فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم اللّه وحفظه، انما تنزل به الملائكة المطهرون، ولذلك قال ـ بعدها ـ: تنزيل من رب العالمين، اي لا تنزيل من الشياطين“42.
*التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، الشيخ محمد هادي معرفة، من منشورات الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، ط1، ص29-43.
1- رسالة الاكليل، مطبوعة ضمن المجموعة الثانية من رسائله ص 10 و17 ـ 18.
2- آل عمران:97
3- يوسف:100
4- يوسف:37
5- الأعراف:53، راجع: رسالته في تفسير سورة الاخلاص، ص 102 ـ 103 ونقله محمد رشيد رضا في تفسير المنار، ج3، ص 195 ـ 196.
6- يرى الاستاذ عبده من متشابهات القرآن، الامور الاخروية التي ورد ذكرها في القرآن،لانها من ضرورة الدين ومن مقاصد الوحي، حيث العقيدة باحوال الاخرة من اركان الدين،فيجب الايمان به، الامر الذي لا يمكن الوقوف على حقيقتها الا بعد مشاهدتها في الاخرة،فهي تاويلها ذلك اليوم، كما قال تعالى: (يوم ياتي تاويله، يقول الذين نسوه من قبل قدجات رسل ربنا بالحق ) الاعراف:53(المنار، ج3، ص 167).
7- السجدة:17.
8- تفسير المنار، ج3،ص 172 ـ 196.
9- الميزان، ج3، ص 48.
10- الميزان، ج3، ص 49، الزخرف:4.
11- الميزان، ج2، ص 14 ـ 16.
12- المصدر نفسه، ج3، ص 53.
13- الميزان، ج13، ص 376.
14- هود:1.
15- الزخرف:1-4.
16- الميزان، ج2، ص 14 ـ 16.
17- الزخرف:3-4.
18- الميزان، ج3، ص 49.
19- البقرة:185.
20- الدخان:1-5.
21- القدر:1.
22- بحار الانوار، ج94، ص 14، رقم23 .
23- البقرة:185.
24- الحشر:21.
25- الفرقان:32.
26- الانعام:37.
27- محمد:20.
28- الانعام:7.
29- الاسراء:95.
30- النحل:44.
31- البقرة:22.
32- آل عمران:7.
33- الانعام:114.
34- التفسير الكبير، ج5، ص 85.
35- مباني وروشهاي تفسير، ص 73.
36- تفسير الميزان، ج11، ص 420، الرعد:39.
37- الزخرف:4.
38- راجع: الطبرسي، مجمع البيان، ج9، ص 39 والطوسي، التبيان، ج9، ص 179 وابا الفتوح الرازي، ج10، ص 74 والفخر الرازي، ج27، ص 194.
39- البروج:21-22.
40- راجع: تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد، ص 29 والفخر الرازي، ج23، ص 66 وج28،ص 152.
41- الواقعة:80.
42- في ظلال القرآن، ج7، ص 706 وراجع: المجمع، ج9، ص 226.