انّ العالم الصالح التقي المرحوم السيد محمّد ابن السيد عباس الساكن في قرية جب شيث(6) من قرى جبل عامل، وهو من بني أعمام السيد النبيل والعالم المتبحّر الجليل السيد صدر الدين العاملي الاصفهاني، صهر الشيخ جعفر النجفي أعلى الله تعالى مقامهما، كان من قصّته (أي السيد محمّد المذكور) انّه (رحمه الله) لكثرة تعدّي الجور عليه خرج من وطنه خائفاً هارباً مع شدّة فقره وقلّة بضاعته، حتى انّه لم يكن عنده يوم خروجه إلاّ مقداراً لا يسوى قوت يومه، وكان متعفّفاً لا يسأل أحداً.
وساح في الأرض برهة من دهره، ورأى في أيّام سياحته في نومه ويقظته عجائب كثيرة إلى أن انتهى أمره إلى مجاورة النجف الأشرف على مشرّفها آلاف التحيّة والتحف، وسكن في بعض الحجرات الفوقانية من الصحن المقدّس، وكان في شدّة الفقر ولم يكن يعرفه بتلك الصفة إلاّ قليل، وتوفّي (رحمه الله) في النجف الأشرف بعد مضي خمس سنوات من يوم خروجه من قريته.
وكان أحياناً يراودني، وكان كثير العفّة والحياء يحضر عندي أيّام إقامة التعزية وربّما استعار منّي بعض كتب الأدعية لشدّة ضيق معاشه، حتى أنّ كثيراً ما لا يتمكّن لقوته إلاّ على تميرات، يواظب الأدعية المأثورة لسعة الرزق حتى كأنّه ما ترك شيئاً من الأذكار المرويّة والأدعية المأثورة.
واشتغل بعض أيّامه على عرض حاجته على صاحب الزمان عليه سلام الله الملك المنّان أربعين يوماً، وكان يكتب حاجته ويخرج كلّ يوم قبل طلوع الشمس من البلد من الباب الصغير الذي يخرج منه إلى البحر، ويبعد عن طرف اليمين مقدار فرسخ أو أزيد بحيث لا يراه أحد، ثم يضع عريضته في بندقة من الطين ويودعها أحد نوّابه سلام الله عليه ويرميها في الماء، إلى أن مضى عليه ثمانية أو تسعة وثلاثون يوماً.
فلمّا فعل ما يفعله كلّ يوم ورجع، قال: كنت في غاية الملالة وضيق الخلق وأمشي مطرقاً رأسي، فالتفتّ فإذا أنا برجل كأنّه لحق بي من ورائي وكان في زيّ العرب، فسلّم عليّ فرددت عليه السلام بأقلّ ما يردّ وما التفتّ إليه لضيق خلقي، فسايرني مقداراً وأنا على حالي، فقال بلهجة أهل قريتي: سيد محمّد ما حاجتك؟ يمضي عليك ثمانية أو تسعة وثلاثون يوماً تخرج قبل طلوع الشمس إلى المكان الفلانيّ وترمي العريضة في الماء، تظنّ أنّ إمامك ليس مطلعاً على حاجتك؟
قال: فتعجّبت من ذلك لأنّي لم اطّلع أحداً على شغلي ولا أحد رآني، ولا أحد من أهل جبل عامل في المشهد الشريف لم أعرفه خصوصاً انّه لابس الكفيّة والعقال، وليس مرسوماً في بلادنا، فخطر في خاطري وصولي إلى المطلب الأقصى، وفوزي بالنعمة العظمى، وانّه الحجة على البرايا إمام العصر عجل الله فرجه.
وكنت سمعت قديماً أنّ يده المباركة في النعومة بحيث لا يبلغها يد أحد من الناس، فقلت في نفسي: أصافحه فان كان يده كما سمعت أصنع ما يحقّ بحضرته، فمددت يدي وأنا على حالي لمصافحته، فمدّ يده المباركة فصافحته فإذا يده كما سمعت، فتيقّنت الفوز والفلاح، فرفعت رأسي ووجّهت له وجهي وأردت تقبيل يده المباركة فلم أر أحداً.(7)
الهوامش
(6) جب شيث مخفف جبّ شيث نبي الله، وهي بئر تُنسب إليه. (7) النجم الثاقب: 323؛ وفي البحار 53: 248، الحكاية العشرون.