الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد
لما استقرّ الصلح بين الحسن (عليه السلام) وبين معاوية على ما ذكرناه، خرج الحسن (عليه السلام) إلى المدينة، فأقام بها كاظماً غيظه، لازماً بيته، منتظراً لأمر ربه عزّ وجلّ، إلى أن تم لمعاوية عشر سنين من إمارته، وعزم على البيعة لابنه يزيد، فدسّ إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس، وكانت زوجة الحسن (عليه السلام) من حملها على سمه، وضمن لها أن يزوجها بابنه يزيد، فأرسل إليها مائة ألف درهم، فسقته جعدة السمّ، فبقى أربعين يوماً مريضاً، ومضى لسبيله في شهر صفر سنة خمسين من الهجرة، وله يومئذٍ ثمانية وأربعون سنة، وكانت خلافته عشر سنين، وتولى أخوه ووصيّه الحسين (عليه السلام) غسله وتكفينه ودفنه عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي الله عنها) بالبقيع.
فمن الأخبار التي جاءت بسبب وفاة الحسن (عليه السلام)، وما ذكرناه من سمّ معاوية له، وقصّة دفنه، وما جرى من الخوض في ذلك والخطاب.
ما رواه عيسى بن مهران قال: حدثنا عبيد الله بن الصباح، قال: حدثنا جرير عن مغيرة، قال: أرسل معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس: إني مُزوّجك ابني يزيد، على أن تسمّي الحسن. وبعث إليها مائة ألف درهم، ففعلت، وسمّت الحسن (عليه السلام)، فسوغها المال ولم يزوّجها من يزيد، فخلف عليها رجل من آل طلحة، فأولدها، وكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام، عيروهم وقالوا: يا بني مسمّة الأزواج.
وروى عيسى بن مهران قال: حدثني عثمان بن عمر، قال: حدثنا ابن عون، عن عمر بن إسحق قال: كنت مع الحسن والحسين (عليهما السلام) في الدار، فدخل الحسن (عليه السلام) المخرج، ثم خرج فقال: لقد سقيت السمّ مراراً ما سقيته مثل هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي، فجعلت أقلبها بعود معي. فقال له الحسين (عليه السلام): ومن سقاك؟ فقال: وما تريد منه؟ أتريد قتله؟ إن يكن هو هو، فالله أشدّ نقمة منك، وإن لم يكن هو، فما أحبّ أن يؤخذ بي بريء.
وروى عبدالله بن إبراهيم عن زياد المخارقي قال: لما حضرت الحسن (عليه السلام) الوفاة، استدعى الحسين (عليه السلام) وقال: “يا أخي، إني مفارقك ولاحق بربي، وقد سقيت السمّ ورميت بكبدي في الطست، وإني لعارف بمن سقاني السمّ ومن أين دهيت، وأنا أخاصمه إلى الله تعالى. فبحقّي عليك، إن تكلّمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يحدث الله عزّ وجلّ في، فإذا قضيت، فغمضني وغسّلني وكفّني وحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجدّد به عهداً، ثم ردني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد (رضى الله عنها) فادفنى هناك، وستعلم يا بن أمّ، أنّ القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيجلبون في ذلك، ويمنعونكم منه، وبالله أقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم”. ثم وصّى (عليه السلام) إليه بأهله وولده وتركاته، وما كان وصّى به إليه أمير المؤمنين (عليه السلام ) حين استخلفه وأهله لمقامه، ودلّ شيعته على استخلافه ونصبه لهم علماً من بعده.
فلما مضى لسبيله، غسّله الحسين (عليه السلام) وكفّنه وحمله على سريره، ولم يشكّ مروان ومن معه من بني أمية أنهم سيدفنونه عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتجمّعوا له ولبسوا السلاح، فلما توجه به الحسين (عليه السلام) إلى قبر جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليجدّد به عهداً، أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: مالي ولكم! تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحبّ؟ وجعل مروان يقول: “يا ربّ، هيجا هي خيراً من دعة، أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبي (صلى الله عليه وآله)؟ لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف! وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبين بني أمية، فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت، فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لكنا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته، ثم نردّ إلى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيّته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبي (صلى الله عليه وآله)، لعلمت انك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك، لكنّه (عليه السلام) كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه. ثم أقبل على عائشة وقال لها: وا سوأتاه ! يوماً على بغل، ويوماً على جمل، تريدين أن تطفئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، ارجعي فقد كفيت الذى تخافين، بلغت ما تحبّين، والله منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين، وقال الحسين (عليه السلام): “والله لولا عهد الحسن (عليه السلام) إليّ بحقن الدماء، وأن لا أهريق في أمره محجمة دم، لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مآخذها، وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا”. ومضوا بالحسن (عليه السلام) فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة.
*من كتاب “الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد”