اللقاء بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
الحكاية الثانية – تشرف عبد المحسن ورسالته إلى على بن طاوس رحمه الله
المصدر: كتاب جنة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة
قال السيد الجليل صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة رضي الدين علي بن طاوس في كتاب غياث سلطان الورى على ما نقله عنه المحدث الاسترابادي في الفوائد المدنية في نسختين كانت إحداهما بخط الفاضل الهندي ما لفظه:
يقول علي بن موسى بن جعفر بن طاوس: كنت قد توجهت أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد القاضي الآوي ضاعف الله سعادته، وشرف خاتمته من الحلة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، في يوم الثلثاء سابع عشر شهر جمادي الاخرى سنة إحدى وأربعين وستمائة، فاختار الله لنا المبيت بالقرية التي تسمى دورة بن سنجار، وبات أصحابنا ودوابنا في القرية، وتوجهنا منها أوائل نهار يوم الاربعاء ثامن عشر الشهر المذكور.
فوصلنا إلى مشهد مولانا علي صلوات الله وسلامه عليه قبل ظهر يوم الاربعاء
المذكور، فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جمادي الاخرى المذكورة فوجدت من نفسي إقبالا على الله، وحضورا وخيرا كثيرا فشاهدت ما يدل على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة، فحدثني أخي الصالح محمد بن محمد الآوي ضاعف الله سعادته أنه رأى في تلك الليلة في منامه كأن في يدي لقمة وأنا أقول له: هذه من فم مولانا المهدي (عليه السلام) وقد أعطيته بعضها.
فلما كان سحر تلك الليلة، كنت على ما تفضل الله به من نافلة الليل فلما أصبحنا به من نهار الخميس المذكور، دخلت الحضرة حضرة مولانا علي صلوات الله عليه على عادتي، فورد علي من فضل الله وإقباله والمكاشفة، ما كدت أسقط على الارض، ورجفت أعضائي واقدامي، وارتعدت رعدة هائلة، على عوائد فضله عندي وعنايته لي، وما أراني من بره لي ورفدي، وأشرفت على الفناء ومفارقة دار الفناء والانتقال إلى دار البقاء، حتى حضر الجمال محمد بن كنيلة، وأنا في تلك الحال فسلم علي فعجزت عن مشاهدته، وعن النظر إليه، وإلى غيره، وما تحققته بل سالت عنه بعد ذلك، فعرفوني به تحقيقا وتجددت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة، و بشارات جميلة.
وحدثني أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآوي ضاعف الله سعادته، بعدة بشارات رواها لي منها أنه رأى كأن شخصا يقص عليه في المنام مناما، ويقول له:
قد رأيت كأن فلانا يعني عني (1) وكأنني كنت حاضرا لما كان المنام يقص عليه راكب فرسا وأنت يعني الاخ الصالح الآوي، وفارسان آخران قد صعدتم جميعا إلى السماء قال: فقلت له: أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم لا أدري، فقلت: أنت يعني عني ذلك مولانا المهدي صلوات الله وسلامه عليه.
وتوجهنا من هناك لزيارة أول رجب بالحلة، فوصلنا ليلة الجمعة، سابع عشر جمادى الآخرة بحسب الاستخارة، فعرفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة أن شخصا فيه صلاح يقال له: عبدالمحسن، من أهل السواد قد حضر بالحلة وكر أنه قدلقيه مولانا المهدي صلوات الله عليه ظاهرا في اليقظة، وقد أرسله إلى عناى؟ برسالة، فنفذت قاصدا وهو محفوظ بن قرا فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادي الآخرة المقدم ذكرها.
فخلوت بهذا الشيخ عبدالمحسن، فعرفته فهو رجل صالح، لا يشك النفس في حديثه، ومستغن عنا، وسألته فذكر أن أصله من حصن بشر وأنه انتقل إلى الدولاب الذي بازاء المحولة المعروفة بالمجاهدية، ويعرف الدولاب بابن أبي الحسن وأنه مقيم هناك، وليس له عمل بالدولاب ولا زرع، ولكنه تاجر في شراء غليلات وغيرها، وأنه كان قد ابتاع غلة من ديوان السرائر وجاء ليقبضها، وبات عند المعيدية في المواضع المعروفة بالمحبر.
فلما كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيدية، فخرج بقصد النهر، والنهر في جهة المشرق، فما أحس بنفسه إلا وهو في قل السلم، في طريق مشهد الحسين (عليه السلام)، في جهة المغرب، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر شهر جمادي الآخرة من سنة لحدى وأربعين وستمائة التي تقدم شرح بعض ما تفضل الله علي فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).
فجلست أريق ماء وإذا فارس عندي ما سمعت له حسا، ولا وجدت لفرسه حركة، ولا صوتا، وكان القمر طالعا، ولكن كان الضباب كثيرا (2).
فسألته عن الفارس وفرسه، فقال: كان لون فرسه صدءا وعليه ثياب بيض وهو متحنك بعمامة ومتقلد بسيف.
فقال الفارس لهذا الشيخ عبدالمحسن: كيف وقت الناس؟ قال عبدالمحسن:
فظننت أنه يسال عن ذلك الوقت، قال: فقلت الدنيا عليه ضباب وغبرة، فقال: ما سألتك عن هذا أنا سألتك عن حال الناس، قال: فقلت: الناس طيبين مرخصين آمنين في أوطانهم وعلى أموالهم.
فقال: تمضي إلى ابن طاوس، وتقول له كذا وكذا، وذكر لي ما قال صلوات الله عليه ثم قال عنه (عليه السلام): فالوقت قددنا، فالوقت قد دنا، قال عبدالمحسن فوقع في قلبي وعرفت نفسي أنه مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) فوقعت على وجهي وبقيت كذلك مغشيا علي إلى أن طلع الصبح، قلت له: فمن أين عرفت أنه قصد ابن طاوس عني؟ (3) قال: ما أعرف من بني طاوس إلا أنت، وما في قلبي إلا انه قصد بالرسالة إليك، قلت: أي شئ فهمت بقوله (عليه السلام) ” فالوقت قددنا فالوقت قددنا ” هل قصد وفاتي قددنا أم قددنا وقت ظهوره صلوات الله وسلامه عليه؟
فقال: بل قددنا وقت ظهوره صلوات الله عليه.
قال: فتوجهت ذلك الوقت (4) إلى مشهد الحسين (عليه السلام) وعزمت أنني ألزم بيتي مدة حياتي أعبدالله تعالى، وندمت كيف ما سألته صلوات الله عليه عن أشياء كنت أشتهي أسأله فيها.
قلت له: هل عرفت بذلك أحدا؟ قال: نعم، عرفت بعض من كان عرف بخروجي من المعيدية، وتوهموا أني قد ضللت وهلكت بتأخيري عنهم، واشتغالي بالغشية التي وجدتها، ولانهم كانوا يروني طول ذلك النهار يوم الخميس في أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه (عليه السلام) فوصيته أن لا يقول ذلك لاحد أبدا، وعرضت عليه شيئا فقال: أنا مستغن عن الناس وبخير كثير.
فقمت أنا وهو فلما قام عني نفذت له غطاء وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلة، فقمت وكنت أنا وهو في الروشن (5) في خلوة، فنزلت لانام فسألت الله زيادة كشف في المنام في تلك الليلة أراه أنا.
فرأيت كأن مولانا الصادق (عليه السلام) قد جاءني بهدية عظيمة، وهي عندي وكأنني ما أعرف قدرها، فاستيقظت وحمدت الله، وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل، وهي ليلة السبت ثامن عشر جمادي الآخرة فأصعد فتح (6) الابريق إلى عندي فمددت يدي فلزمت عروته لافرغ على كفي فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عني ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة، فقلت: لعل الماء نجس فأراد الله أن يصوني عنه فإن لله عزوجل علي عوائد كثيرة أحدها مثل هذا وأعرفها.
فناديت إلى فتح، وقلت: من أين ملات الابريق؟ فقال: من المصبة (7)
فقلت: هذا لعله نجس فاقلبه واطهره (8) واملاه من الشط فمضى وقلبه وأناأسمع صوت الابريق وشطفه وملاه من الشط، وجاء به فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفي فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عني ومنعني منه.
فعدت وصبرت، ودعوت بدعوات، وعاودت الابريق وجرى مثل ذلك، فعرفت أن هذا منع لي من صلاة الليل تلك الليلة، وقلت في خاطري: لعل الله يريد أن يجري علي حكما وابتلاء غدا ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك، وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك.
فنمت وأنا جالس، وإذا برجل يقول لي: يعني عبدالمحسن الذي جاء بالرسالة كأنه ينبغي أن تمشي بين يديه، فاستيقظت ووقع في خاطري أنني قد قصرت في احترامه وإكرامه، فتبت إلى الله جل جلاله، واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك، وشرعت في الطهارة فلم يمسك أبدا [فم] الابريق وتركت على عادتي فتطهرت وصليت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل، وفهمت أنني ما قمت بحق هذه الرسالة.
فنزلت إلى الشيخ عبدالمحسن، وتلقيته وأكرمته، وأخذت له من خاصتي ستانير (9) ومن غير خاصتي خمسة عشر دينارا مما كنت أحكم فيه كمالي (10)
وخلوت به في الروشن، وعرضت ذلك عليه، واعتذرت إليه، فامتنع من قبول شئ اصلا، وقال: إن معي نحو مائة دينار وما آخذ شيئا، أعطه لمن هو فقير، وامتنع غاية الامتناع.
فقلت: إن رسول مثله عليه الصلاة والسلام، يعطى لاجل الاكرام لمن أرسله لا لاجل فقره وغناه، فامتنع، فقلت له ” مبارك ” أماالخمسة عشر، فهي من غير خاصتي، فلا أكرهك على قبولها، وأما هذه الستة دنانير فهي من خاصتي فلا بد أن تتقبلها مني فكاد أن يؤيسني من قبولها، فألزمته فأخذها، وعاد تركها، فألزمته فأخذها، وتغديت أنا وهو، ومشيت بين يديه كما أمرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان، والحمد لله وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.
………………………………………….
* (هامش) *
(1) قد تكرر في الحكاية قوله ” يعنى عنى ” وأمثاله، وهي من لغة أهل العراق:
المولدين، وكانه يستعمل ” يعني ” بمعنى ” يكنى ” أى يكنى بفلان عني.
(2) الضباب: ندى كالغبار يغشى الارض وقيل سحاب رقيق كالدخان، يقال له بالفارسية ” مه “.
(3) هكذا في النسخة والصحيح ” قصدني عن ابن طاوس ” منه رحمه الله، أقول:
قد عرفت أن ناقل الحكاية من أهل السواد، فاذا عدى ” عنى ” و ” قصد ” بعن الجارة يضمنه معنى الكناية كانه قال ” كنى بابن طاوس عنى ” ومعناه على لغته ظاهر.
(4) اليوم، خ.
(5) الروشن: أصلها فارسية، قال الفيروز آبادي: ” الروشن: الكوة ” لكن المراد بقرينة ما بعده: الغرفة المشرفة.
(6) فتح: اسم غلامه. منه رحمه الله.
(7) في الاصل المطبوع: المسببة، بالسين وهو تصحيف.
(8) في نسخة الفاضل الهندي: ” فاشطفه ” وهو الاصح لغة، وبقرينة ما يأتي، منه رحمه الله. أقول: الشطف: الغسل، وهي لغة سواد أهل العراق، ليست بأصيلة.
(9) ستانير، كذا في النسخ والظاهر انه مخفف ” ستة دنانير ” كذا بخط المؤلف رحمه الله، أقول: بل هو مقطوع لما يأتي بعده من التصريح بذلك، وهو مثل قولهم ” ستى ” مخفف ” سيدتي “.
(10) أي مثل مالي.