من هو أبو الفضل العباس ع؟

هو العبّاس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

إلى هنا يقف الباحث عن الإتيان بباقي الآباء الأكارم الى آدم، بعد ما يقرأ قول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ” إذا بَلغ نسبي إلى عدنان فامسكوا “.
وكأنّه نظر الى غرابة تلكم الأسماء، وتعاصيها على نطق العامة، فكان التصحيف إليها أسرع شيء، فيعود وهناً في ساحة جلالتهم، وخفةً في مقدارهم، وقد ولدوا الرّسول الأعظم والوصي المقدّم صلّى اللّه عليهم أجمعين.
وكيف كان فالمُهمّ الذي يجب الهتاف به هو كون كُلّ واحد من هؤلاء الأنجاب غير مدنّس بشيء من رجس الجاهلية، ولا موصوماً بعبادة وثن، وهو الذي يرتضيه علماء الحقّ، لكونهم صدّيقين بين أنبياء وأوصياء.

وقد نزّههم اللّه تعالى في خطابه لنبيّه الأقدس: { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }، فإنّه أثبت لهم جميعاً ـ بلفظ الجمع المحلّى باللام ـ السّجود الحقّ الذي يرتضيه لهم، وإنّ ما يؤثر عنهم من أشياء مستغربة لا بدّ أن يكون من الشريعة المشروعة لهم، أو يكون له معنىً تظهره الدراية والتنقيب وليس آزر ـ الذي كان ينحت الأصنام وكاهن نمرود ـ أبا إبراهيم الخليل، الذي نزل من ظهره، لأنّ أباه اسمه تارخ، وآزر، إمّا أن يكون عمّه، كما يرتئيه جماعة من المؤرّخين، وإطلاق الأب على العمّ شائع على المجاز، وجاء به الكتاب المجيد: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} فأطلق على إسماعيل لفظ الأب، ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمّه، كما اُطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جدّه.

وإمّا أن يكون آزر جدّ إبراهيم لاُمّه كما يراه المنقّبون، والجد للأُمّ أب في الحقيقة، ويؤيّد أنّه غير أبيه قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ }.فميّزه باسمه، ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى بإضافة الأُبوّة عن التسمية بآزر.
وصرّح الرسول بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فقال: ” لمّا أراد اللّه أن يخلقنا، صوّرنا عمود نور في صلب آدم، فكان ذلك النور يلمع في جبينه، ثمّ انتقل إلى وصيّه شيث، وفيما أوصاه به ألاّ يضع هذا النور إلاّ في أرحام المطهّرات من النساء، ولم تزل هذه الوصيّة معمولاً بها يتناقلها كابر عن كابر، فولدنا الأخيار من الرجال والخيرات المطهّرات المهذّبات من النساء، حتّى انتهينا الى صلب عبد المطلب، فجعله نصفين: نصف في عبد اللّه فصار إلى آمنة، ونصف في أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد”.

أمّا ” عدنان ” فقد أوضح في خطبه في ظهور النّبي وأنّه من ذريّته وأوصى باتباعه.
وكان ابنه ” معد ” صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ممّن حاد عن التوحيد، ولم يحارب أحداً إلاّ رجح عليه بالنصر والظفر، ولكونه على دين التوحيد ودين إبراهيم الخليل أمر اللّه أرميا أن يحمله معه على البراق كيلا تصيبه نقمة بختنصر، وقال سبحانه لارميا: إنّي سأخرج من صلبه نبياً كريماً اختم به الرسل، فحمله الى أرض الشام الى أن هدأت الفتن بموت بختنصّر.
وكان السبب في التسمية بـ ” نزار ” أنّ أباه لمّا نظر إلى نور النبوّة يشع من جبهته سرّه ذلك، فأطعم الناس لأجله وقال: إنه نزر في حقّه.
وورد النهي عن سبّ ربيعة ومضر ; لأنّهما مؤمنان، ومن كلام مضر: من يزرع شرّاً يحصد ندامةً.
و” إلياس بن مضر ” كبير قومه وسيّد عشيرته، وكان لا يقضى أمر دونه، وهو أوّل من هدى البدن إلى البيت الحرام، وأوّل من ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح، وكان مؤمناً موحّداً، ورد النهي عن سبّه، وقد أدرك مدركة بن إلياس كلّ عز وفخر كان لآبائه، وكان فيه نور النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و” كنانة ” شيخ عظيم القدر حسن المنظر، كانت العرب تحجّ إليه لعلمه وفضله، وكان يقول: قد آن خروج نبيّ من مكة يدعى أحمد، يدعو إلى اللّه وإلى البرّ والاحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفاً وعزاً إلى عزّكم، ولا تكذبوا ما جاء به فهو الحقّ. وممّا يؤثر عنه: ” ربّ صورة تخالف المخبرة قد غرت بجمالها واختبر قبح فعالها، فاحذر الصور واطلب الخبر “، وكان يأنف أن يأكل وحده.
وولده ” النضر ” (قريش عند الفقهاء) فلا يقال لأولاد من فوقه قرشي، وإنّما أولاده مثل مالك وفهر، فمن ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده فليس بقرشي.
وأمّا ” فهر ” فقد حارب حسّان بن عبد كلال حين جاء من اليمن في حمير لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتاً باليمن يزوره الناس، فانتصر فهر وأسر حسّان وانهزمت حمير، وبقي حسّان في الأسر ثلاث سنين، ثمّ فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة واليمن، فهابت العرب فهراً وأعظموه وعلا أمره، خصوصاً مع ما يشاهدون في جبهته من نور النبوّة، ويؤثر عنه قوله لولده غالب: ” قليل ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك “، وكان موحّداً.
ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النّبي، ويُعلم قريشاً أنّه من ولده، ويأمرهم باتباعه ويقول: ” اسمعوا وعوا وتعلّموا تعلموا وتفهّموا تفهموا، ليل داج ونهار ساج والأرض مهاد والجبال أوتاد والأولون كالآخرين، كلّ ذلك إلى بلاء، فصلوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم، فهل رأيتم من هلك رجع أو ميتاً نشر الدار أمامكم؟ والظنّ خلاف ما تقولون، زيّنوا حرمكم وعظّموه وتمسّكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبيّ كريم، ثمّ قال:
نهارٌ وليلٌ واختلاف حوادث … سواءٌ عَلينا حلوُها ومريرُها
يؤوبان بالأَحداثِ حتّى تأوّبا… وبالنعمِ الضافي علينا ستُورها
على غفلة يأتِي النّبي محمّد… فيُخبر أخباراً صدوقاً خبيرها
ثمّ قال:
يَاليتني شاهِد فَحْواء دعوتهِ… حتّى العشيرةِ تبغي الحقّ خُذلانا
ولجلالته وشرفه في قومه أرّخوا بموته ثمّ أرّخوا بعام الفيل، ثمّ بموت عبد المطلب، وهو أوّل من سمّى يوم الجمعة ; لاجتماع قريش فيه، وكان اسمه في الجاهلية العروبة، ولما جاء الإسلام أمضاه.
و” كلاب بن مرّة ” الجد الثالث لآمنة أُمّ النّبي والرابع لأبيه عبد اللّه، كان معروفاً بالشجاعة، ونور النّبي لائح في جبهته.
ولا تسل عن سيّد الحرم ” قصي ” فلقد جمع قومه من منازلهم وأسكنهم أرض مكة، وأمرهم بالبناء حول البيت ; لتهابهم العرب، فبنوا حول جوانبه الأربعة، وجعلوا لهم أبواباً تخصهم، فباب لبني شيبة، وباب لبني جمح، وباب لبني مخزوم، وباب لبني سهم. وتركوا قدر الطواف بالبيت، وبنى قصي دار الندوة للمشاورة والتفاهم فيما يعرض عليهم من المهمات، وتيمّنت قريش برأيه وسمّي مجمعاً.
وعند مجيء الحاج قال لقريش: ” هذا أوان الحجّ، وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كلّ انسان منكم من ماله خرجاً “. ففعلوا وجمع مالاً كثيراً، ولمّا جاء الحاج نحر لهم على كلّ طريق من طرق مكة جزوراً، غير ما نحره بمكة، وأوقد النار بالمزدلفة ليراها الناس.
وصنع للناس طعاماً أيام منى، وجرى عليه الحال حتّى جاء الإسلام، فالطعام الذي يصنعه السلطان أيام منى كلّ عام من آثار قصي، ومن هنا خضعت خزاعة لقصي، وسلّمت له أمر الحرم وسدانة البيت الحرام، بعد أن كانت عند حليل وعند قصي ابنته وهي أُمّ أولاده.
تولّى قصي سدانة البيت: إمّا بوصاية من حليل عند الموت إليه، أو أنّها كانت عند ابنته زوج قصي بالوراثة، فقام زوجها بتدبير شؤون البيت لعجز المرأة عن القيام بهذه الخدمة، أو أنّ أبا غبشان الخزاعي كان وصيّ حليل على هذه السدانة، فعاوضه عليها قصي بأثواب وأذواد من الإبل.
وهذا هو الصحيح المأثور في ولاية قصي سدانة البيت، ويتفق مع العقل الحاكم بنزاهة جدّ الرسول الأقدس خاتم الأنبياء عمّا تأباه شريعة إبراهيم الخليل من المعاوضة بالخمر المحرم في جميع الأديان.
أيجوز لجدّ الرسول أن يجعل للخمر قيمة ـ وثمنها سحت ـ وهو المانع عنها، المحذّر قومه منها؟! فإنّه قال لولده وقومه: ” اجتنبوا الخمر، فإنّها لا تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان “، فكيف يعاوض بها؟! بل لا يتحيّل إلى مطلوبه بالخمر وهو القائل: ” من استحسن قبيحاً نزل إلى قبحه، ومن أكرم لئيماً أشركه في لؤمه، ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان، ومن طلب فوق قدره استحقّ الحرمان، والحسود هو العدو الخفي “.
وقد جمع أطراف المجد والشرف ” عبد مناف ” بن قصي، ولبهائه وجمال منظره قيل له: ” قمر البطحاء “، وكان سمحاً جواداً لا يعدم أحداً من ماله حتّى في أيام أبيه، فقيل له: ” الفيّاض “.
ويسمّى مناف ; لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتّى ضربت له الركبان من أطراف الأرض(2)، وكان اسمه عبداً، ثمّ اُضيف إلى
مناف فقيل له: ” عبد مناف ” وهذا هو الصحيح المأثور.
وأمّا ما أثبته ابن دحلان في السيرة النبوية من أن أُمّه اخدمته صنماً اسمه مناف، فهو بعيدٌ عن الصواب ; إذ لا شكّ في نزاهة آباء النّبي وأُمهاته في جميع أدوار حياتهم من الخضوع للأصنام كرامة لحبيبه وصفيّه الرسول الأعظم، فليس بصحيح ما يقال: من أنّ في آباء النّبي وأُمهاته من يعبد الصنم، أو يخضع له ; لشهادة ما تقدّم من الأحاديث عليه، وإليه أشار البوصيري:
لَمْ تَزلْ فِي ضَمائِر الكَونِ تَختَا… رُ لَكَ الأُمّهاتُ والآباءُ
على أنّه لم يكن من الأصنام اسمه ” مناف “، وإنّما الموجود ” مناة ” بالتاء المثناة من فوق، ومن هنا كان يقول ابن الكلبي في كتاب الأصنام: 32: ” لا أدري أين كان هذا الصنم؟ ولمن كان؟ ومن نصبه “.
ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير: أنّ أُمه أخدمته مناة (بالتاء المثناة من فوق) فسمي عبد مناة، ولكن رأي قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوّله عبد مناف.وكان بيت عبد مناف أشرف بيوتات قريش، ولسيادته كان عنده قوس إسماعيل ولواء نزار، ومن وصيّته ما وجد مكتوباً في بعض الأحجار: أوصى قريشاً بتقوى اللّه جلّ جلاله وصلة الرحم.
وجرى ابنه هاشم على سيرته حتّى فاق قريشاً وسائر العرب، واذعنوا له، وكان يُطعم الحّاج، كما كان يصنع أبوه. وأصابت قريشاً سنة مُجدِبة، فخرج هاشم الى الشام واشترى الدقيق والكعك، فهشم الخبز، ونحر الجزر، وأطعم الناس حتّى أشبعهم. وكانت مائدته منصوبةً لا ترفع في السّراء والضّراء، وكان يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف، وإذا أهلّ هلالّ ذي الحجّة قام في صبيحته وأسند ظهره الى الكعبة من تلقاء بابها وخطب الناس فقال:
” يا معشر قريش ; إنّكم سادة العرب، أحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلماً، وأوسطها نسباً، وإنّكم جيران بيت اللّه، أكرمكم اللّه بولايته، وخصّكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنّه يأتيكم زوار اللّه يعظّمون بيته، فهم أضيافه، وحقّ من أكرم أضياف اللّه أنتم ; فأكرموا ضيفه وزواره، فإنّهم يأتونه غبراً من كلّ بلد، على ضوامر كالقداح، فوربِّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلالي ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله ـ لكرامة زوار بيت اللّه وتقويتهم ـ إلاّ طيّباً، لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصباً “.
فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجون من أموالهم، ويضعونه في دار الندوة.
وهو أوّل من سنّ لقريش الرحلتين ; رحلة إلى اليمن ورحلة إلى الشام، وأخذ لهم من ملوك الروم وغسان ما يعتصمون به(2) ; وذلك إنّ تجار قريش لم تعد تجارتهم نفس مكة وضواحيها، وإنّما تقدّم عليهم الأعاجم بالسلع، فيشترونها، حتّى رحل هاشم إلى الشام ونزل على قيصر، فأعجبه حسن خلقه وجمال هيئته وكرمه المنهمر، فلم يحجبه، وأذن له بالقدوم عليه بالتجارة، وكتب أماناً بينهم، فارتقت منزلة هاشم بين الناس، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام، وجعل لهم معه ربحاً، وساق لهم إبلاً مع إبله، وكفاهم مؤونة الأسفار على أن يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين، فكان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش بذلك، وأتاها الخير من البلاد العالية والسافلة ببركة هاشم، وهذا هو الإيلاف المذكور في القرآن المجيد(3).
وكان يقول في خطبته: ” أيُّها الناس نحن آل إبراهيم، وذريّة إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكُلّ في كلّ خلف يجب عليه نصرته وإجابة دعوته، إلاّ ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم.
يا بني قصي، أنتم كغصني شجرة أيّهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلاّ بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه اللجاج وأخرجه إلى البغي.
أيّها الناس، الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام هول، والدهر غِير، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشرف، وتهدم المجد، وإنّ نهنهة الجاهل أهون من جريرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به “.
ولنور النبوّة الحالّ في جبهته كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء، ولم يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ ناداه: أبشر يا هاشم، سيظهر من ذريّتك أكرم خلق اللّه مُحمّد خاتم النبيّين.
وأوصاه أبوه ـ عبد مناف ـ بما أوصاه به أبوه قصي: أن لا يضع نور النبوّة إلاّ في الأرحام الطاهرات من النساء، وأخذ عليه العهد بذلك، فقبل.
وقد تقدّم أنّها موروثة من آدم (عليه السلام)، ومن هنا رغب الأشراف من الأكاسرة والقياصرة في مصاهرة هاشم وهو يأبى، حتّى إذا رأى في المنام قائلاً يقول: عليك بسلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث بن زيد بن عامر بن غنم بن مازن من بني النجار، فإنّها طاهرة مطهّرة الأذيال، ليس لها مشبه من النساء، فادفع المهر الجزيل، فإنّك ترزق منها ولداً يكون منه النّبي، فمشى هاشم وأخوه المطلب وبنو عمِّه إلى المدينة ومعهم لواء نزار وعليهم أفخر الثيّاب والدروع.
ولمّا اجتمع القوم خطب المطلب بن عبد مناف فقال: ” نحن وفد بيت اللّه الحرام، والمشاعر العظام، وإلينا سعت الأقدام، وأنتم تعلمون شرفنا وسؤددنا، وما خصّنا به اللّه من النور الساطع والضياء اللامع، ونحن بنو لؤي بن غالب، قد انتقل هذا النور إلى عبد مناف، ثُمّ إلى أخينا هاشم، وهو معنا من آدم (عليه السلام)، وقد ساقه اللّه إليكم، وأقدمه عليكم، فنحن لكريمتكم خاطبون، وفيكم راغبون “.
فأجابه عمرو ـ أبو سلمى ـ بالقبول والإنعام، وساقوا المهر كما أرادوا.
ولمّا تزوّج منها هاشم، ودخل بها، وحملت بعبد المطلب انتقل إليها النور، وما زالت تسمع البشائر بولادة خير البشر فأفزعها ذلك، إلاّ أنّ هاشماً عرّفها أمر النّبي.
فلمّا ولدت عبد المطلب كان يدعى (شيبة الحمد) ; لكثرة حمد الناس له، لكونه مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأُمور، فكان شريف قومه وسيّدهم كمالاً ورفعةً، غير مدافع عن ذلك، وهو من حلماء قريش وحكمائها.
وقد سنّ أشياءَ أمضاها له الإسلام: حرّم نساء الآباء على الأبناء، ووجد كنزاً أخرج خمسه وتصدّق به، وسنّ في القتل مائة من الإبل، ولم يكن للطواف عدد عند قريش. فسنّه سبعة أشواط، وقطع يد السارق، وحرّم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يستقسم بالأزلام، ولا يؤكل ما ذبح على النصب.
ومما يؤثر عنه: ” الظلوم لن يخرج من الدنيا حتّى ينتقم منه، وإنّ وراء هذا الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وإذا لم تصب الظلوم في الدنيا عقوبة فهي معدة له في الآخرة “.
وقيل له: الفيّاض ; لكثرة جوده ونائله، حتّى إنّ مائدته يأكل منها الراكب، ثُمّ ترفع إلى جبل أبي قبيس لتأكل منها الطير والوحوش.
ولعزّه المنيع وشرفه الباذخ كان يفرش له بإزاء الكعبة، ولم يفرش لأيّ أحد غيره، ولا يجالسه على بساط الأُبهة إلاّ نبيّ العظمة، وإذا أراد أحد أعمامه أن ينحيه صاح به عبد المطلب وقال: ” إنّ له لشأناً وملكاً عظيماً “.
ولا غرو في ذلك بعد أن كان وصيّاً من الأوصياء وقارئاً للكتب السماوية، ولقد أخبر أبو طالب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ” كان أبي
يقرأ الكتب جميعاً ” وقال: ” إنّ من صلبي نبيّاً، لوددت أنّي أدركت ذلك الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به “.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ” واللّه ما عَبدَ أبي ولا جدّي عبد المطلب ولا عبد مناف ولا هاشم صنماً، وإنّما كانوا يعبدون اللّه، ويصلّون إلى البيت على دين إبراهيم، متمسّكين به “.
وكان أبو طالب سيّد البطحاء شبيهاً بأبيه شيبة الحمد، عالماً بما جاء به الأنبياء، وأخبرت به أُممهم من حوادث وملاحم ; لأنّه وصيّ من الأوصياء، وأمين على وصايا الأنبياء حتّى سلّمها إلى النّبي ( صلى الله عليه وآله).
قال درست بن منصور: قلت لأبي الحسن الأوّل: أكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) محجوجاً بأبي طالب؟
قال: ” لا، ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ” قلت: دفعها إليه على أنّه محجوج به؟
قال (عليه السلام): ” لو كان محجوجاً به ما دفعها إليه “.
قلت: فما كان حال أبي طالب؟
قال: ” أقرّ بالنّبي وبما جاء به حتّى مات “.
وقال المجلسي: ” أجمعت الشيعة على أنّ أبا طالب لم يعبد صنماً قطّ، وأنّه كان من أوصياء إبراهيم الخليل (عليه السلام) “(1).
وحكى الطبرسي إجماع أهل البيت (عليهم السلام) على ذلك، ووافقه ابن بطريق في كتاب المستدرك.
وقال الصدوق: ” كان عبد المطلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النّبي، وكانا يكتمان ذلك عن الجهّال والكفرة “(2).
وممّا يشهد على أنّه كان على دين التوحيد وملّة إبراهيم، أنّ قريشاً لمّا أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين ( عليه السلام)، خصوصاً لما أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس ليسكن بهم ما شاهدوه ارتجّ الجبل، وتساقطت الأصنام، ففزعوا إلى أبي طالب ; لأنّه مفزع اللاجىء، وعصمة المستجير، وسألوه عن ذلك، فرفع يديه مبتهلاً إلى المولى جلّ شأنه قائلاً: ” إلهي أسألك بالمحمّدية المحمودة، والعلويّة العالّية، والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة، فسكن ما حلّ بهم، وعرفت قريش هذه الأسماء قبل ظهورها، فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المهمات، وهي لا تعرف حقيقتها “(3).
ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسول وخصّه به دون بنيه وقال:
وصيّت من كنيّته بطالّب… عبدَ مناف وهو ذو تجارّب
بابنِ الحبيّبِ أكرمِ الأقارّب… بابن الّذي قَدْ غابَ غيرَ آئب
فقال أبو طالب:
لا تُوصني بلازم وواجب… إنّي سمعتُ أعجبَ العجائبِ
من كُلّ حبر عالم وكاتب… بأنّ بحمّد اللّه قول الراهبِ
فقال عبد المطلب: ” أُنظر يا أبا طالب أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الّذي لم يَشمّ رائحة أبيه، ولم يذق شفقة أُمّه، أُنظر أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك، فإنّي قد تركت بنيّ كُلّهم وخصصتك به، لأنّك من أُمّ أبيه، وأعلم فإنّ استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنّه واللّه سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي، هل قبلت وصيّتي “؟
قال: ” نعم، قد قبلتُ، واللّه على ذلكِ شاهد “.
فقال عبد المطلب: ” الآن خُفّف عليَّ الموت “، ولم يزل يقبّله ويقول: ” اشهد أنّي لم أر أحداً في ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً “.
وفرح أبو طالب بهذه الحظوة من أبيه العطوف، وراح يدّخر لنفسه السعادة الخالدة بكفالة نبيّ الرحمة، فقام بأمره، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود والعرب وقريش، وكان يؤثره على أهله ونفسه، وكيف لا يؤثره وهو يشاهد من ابن أخيه ولمّا يبلغ التاسعة من عمره هيكل القدس يملأ الدست هيبةً ورجاحة، أكثر ضحكه الابتسام، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع.
وإذا وضع له الطعام والشراب لا يتناول منه شيئاً إلاّ قال: ” بسم اللّه الأحد “، وإذا فرغ من الطعام حمِد اللّه وأثنى عليه، وإن رصده في نومه شاهد النور يسطع من رأسه إلى عنان السماء.
وكان يوماً معه بذي المجاز، فعطش أبو طالب ولم يجد الماء، فجاء النّبي إلى صخرة هناك وركلها برجله، فنبع من تحتها الماء العذب. وزاد على ذلك توفر الطعام القليل في بيته حتّى إنّه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النّبي منه شيئاً.
وهذا وحده كاف للإِذعان بأن أبا طالب كان على يقين من نبوة ابن أخيه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أضف إلى ذلك قوله في خطبته لما أراد أن يزوّجه من خديجة: ” وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل “(4).
وفي وصيته لقريش: ” إنّي أوصيكم بمحمّد خيراً، فإنّه الأمين في قريش، والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكُلّ ما أوصاكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان “.
ولمّا جاء العبّاس بن عبد المطلّب يخبره بتألّب قُريش على معاداة الرسول قال له: ” إنّ أبي أخبرني أنّ الرسول على حقٍّ، ولا يضرّه ما عليه قريش من معاداة له، وإنّ أبي كان يقرأ الكتب جميعاً، وقال: إنّ من صلبي نبيّاً لوددت أنّي أدركته فآمنت به، فمن أدركه فليؤمن به “.
واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب، مع أنّه كان يقرؤها مثله، يدلّنا على تفنّنه في تنسيق القياس وإقامة البرهان على صحة النبوّة، وأنّ الواجب اعتناق شريعته الحقّة.
أمّا هو نفسه فعلى يقين من أنّ رسالة ابن أخيه خاتمة الرسل، وهو أفضل من تقدّمه قبل أن يشرق نور النبوّة على وجه البسيطة، ولم تجهل لديه صفات النّبي المبعوث.
وعلى هذا الأساس أخبر بعض أهلِ العلم من الأحبار حينما أسرّ إليه بأنّ ابن أخيه محمّداً الروح الطيّبة، والنّبي المطهّر على لسان التوراة والانجيل، فاستكتمه أبو طالب الحديث كي لا يفشوا الخبر، ثمّ قال له: ” إنّ أبي أخبرني أنّه النّبي المبعوث، وأمر أنْ أستر ذلك لئلا يغرى به الأعادي “.
ولو لم يكن معتقداً صدق الدعوة لما قال لأخيه حمزة لما أظهر الإسلام.
فصَبْراً أبا يَعلى على دينِ أحمد… وكُنْ مظهراً للدين وُفّقت صابراً
وحطْ من أتى بالدين من عندِ ربِّه…بصدق وحقّ لا تكن حمز كافراً
فقد سرّني إذ قلت إنّك مُؤمن …فكنْ لرسولِ اللّهِ في اللّهِ ناصرا
ونادِ قُريشاً بالذي قَدْ أتيته… جهاراً وقُلّ ما كان أحمدَ ساحرا
وقال راداً على قريش:
أَلَمْ تَعْلَموا أنّا وجدنا محمّداً… نبيّاً كموسى خطَّ في أوّل الكتّب
وقال:
وأَمسى ابنُ عبدِ اللّهِ فينا مُصدّقاً… على سخط من قَومنا غيرَ معتّب
وقال:
أمينٌ محبّ في العبادِ مسوّم… بخاتمِ ربِّ قاهر للخواتمِ
يرى الناسُ بُرهاناً عليه وهيْبة… وما جاهل في فعلهِ مثل عالمِ
نبيّ أتاه الوحي من عندِ ربِّه … فمَن قال لا يقرع بها سنّ نادم
وممّا خاطب به النجاشي:
أتدري خيارُ الناسِ أنّ محمّداً …وزيرٌ لموسى والمسيّح بن مريَم
أتى بالهدى مثَلَ الذي أتيَا بهِ … فكُلٌ بأمر اللّه يهدي ويَعصِمُ
وإنّكم تتلونه في كتابكم … بِصدقِ حديث لا حديثَ المُترجم
فلا تجعلوا للّهِ نداً وأسلموا… فإنّ طريق الحقِّ ليس بمُظلِمِ
وقال:
اذهب بُنيّ فمَا عليكَ غَضاضَة… اذهب وقرّ بذاك مِنك عيونا
واللّه لن يَصلوا إليكَ بجمعهِم … حتّى أُوسدَ في التّراب دفينا
ودعوتني وعلمتُ أنّكَ ناصحي… ولقد صدقتَ وكُنتَ قَبلُ أمينا
وذكرتَ ديناً لا محالة أنّه …من خير أديانِ البريّة دينا
وبعد هذه المصارحة هل يخالج الريبُ أحداً في إيمان أبي طالب؟ وهل يجوز لمن يقول: ” إنّا وجدنا محمّداً كموسى نبياً ” إلاّ الاعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدّمين؟ وهل يكون إقرار بالنبوّة أبلغ من قوله: ” فأمسى ابن عبد اللّه فينا مصدقاً “؟ وهل فرق بين أن يقول المسلم: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وبين أن يقول:
وإن كانَ أحمد قَدْ جاءَهم …بصدق ولم يتّهم بالكَذِب
أَوَ يعترف الرجل بأنّ محمّداً كموسى وعيسى جاء بالهدى والرشاد مثل ما أتيا به ثُمّ يحكم عليه بالكفر؟! وهل هناك جملة يعبّر بها عن الإسلام أصرح من قول المسلم:
وذكرت ديناً لا محالة أنّه …من خيرِ أديان البرية ديناً؟
كلاّ! ولو لم يعرف أبو طالب من ابن أخيه الصدق فيما أخبر به لما قال له بمحضر قريش ليريهم من فضله وهو به خبير وبنبوّتِهِ مؤمن: ” يا بن أخي اللّه أرسلك “؟
قال: ” نعم “.
قال: ” إنّ للأنبياء معجزة وخرق عادة فأرنا آية “؟
قال (صلى الله عليه وآله): ” يا عم ادعُ تلك الشجرة وقل لها: يقول لك محمّد بن عبد اللّه: أقبلي بإذن اللّه “! فدعاها أبو طالب فأقبلت حتّى سجدت بين يديه، ثُمّ أمرها بالانصراف فانصرفت، فقال أبوطالب: ” أشهد أنّك صادق “، ثُمّ قال لابنه علي (عليه السلام): ” يا بنيّ الزَمْه “.
وقال يوماً لعلي: ” ما هذا الذي أنت عليه “؟
قال: ” يا أبة آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت بما جاء به، ودخلت معه واتبعته “. فقال أبو طالب: ” أما إنّه لا يدعوك إلاّ إلى خير فالزمه “.
وهل يجد الباحث بعد هذا كُلّه ملتحداً عن الجزم بأنّ شيخ الأبطح كان معتنقاً للدّين الحنيف، ويكافح طواغيت قريش حتّى بالإِتمام مع النّبي في صلابة، وإن أهمله فريق من المؤرّخين رعاية لما هم عليه من حبّ الوقيعة في أبي طالب ورميه وقذفه بما ليس فيه، حنقاً على ولده (الإِمام) الذي لم يتسنّ لهم أي غميزة فيه، فتحاملوا على أُمّه وأبيه، إيذاءً له، واكثاراً لنظائر من يرومون إكباره وإجلاله ممّن سبق منهم الكفر، وحيث لم يسعهم الحطُّ من كرامة النّبي أو الوصيّ عمدوا إلى أبويهما الكريمين فعزوا إليهما الطامات، وربما ستروا ما يؤثر عنهما من الفضائل إيثاراً لما يروقهم اثباته!!
ويشهد لذلك ما ذكره بعض الكتّاب عند ذكر أسرى بدر فقال: ” وكان من الأسرى عمِّ النّبي، وعقيل ابن عمه (أخو علي) “.
فإنّه لو كان غرضه تعريف المأسور لكان في تعريف عقيل بأنّه ابن عمّ النّبي كفاية، كما اكتفى في تعريف العبّاس بأنّه عَمُّ النّبي، ولم يحتج أن يكتب بين قوسين (أخو علي)، وأنت تعرف المراد من ذكر هذه الكلمة بين قوسين، وإلى أيّ شيء يرمز بها الكاتب، ولكن فاته الغرض وهيهات الذي أراد ففشل.
ثُمّ جاء فريق آخر من المؤرّخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض المستهدفة، وأنّ ما جاءوا به حقائق راهنة، فاقتصر على مرويّاتهم ممّا دبّ ودرج، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنوايا السيئة، ومن هنا أُهملت حقائق ورويت أباطيل.
فعزوا إلى أبي طالب قوله: ” إنّي لا أحبّ أن تعلوني أستي “! ثُمّ رووا عنه أنّه قال لرسول اللّه: ” ما هذا الدّين “؟
قال رسول اللّه: ” دين اللّه، ودين ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم، بعثني اللّه به إلى العباد، وأنت أحقّ من دعوته إلى الهدى وأحقّ من أجابني “.
فقال أبو طالب: ” إنّي لا استطيع أن أُفارق ديني ودين آبائي، واللّه لا يخلص إليك من قريش شيء تكرهه ما حييت “(1).
فحسبوا من هذا الكلام أنّ أبا طالب ممّن يعبد الأوثان، كيف! وهو على التوحيد أدلّ!
وجوابه: هذا من أنفس التورية وأبلغ المحاورة، فإنّ مراده من قوله لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عقيب قوله: ” أنت أحق من دعوته “: ” إنّي لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي ” الاعتراف بإيمانه، وأنّه باق على الملّة البيضاء، وحنيفية إبراهيم الخليل الذي هو دين الحقّ والهدى، وهو دينه ودين آبائه، ثُمّ زاد أبو طالب في تطمين النّبي بالمدافعة عنه مهما كان باقياً في الدنيا.
نعم، من لا خبرة له بأساليب الكلام وخواصّ التورية يحسب أنّ أبا طالب أراد بقوله: ” إنّي لا أُفارق ديني… إلى آخره ” الخضوع للأصنام، فصفق طرباً، واختال مرحاً.
وجاء الآخر يعتذر عنه بأنّه كان يراعي بقوله هذا الموافقة لقريش، ليتمكّن من كلاءة النّبي وتمشية دعوته.
نحن لا ننكر أنّ شيخ الأبطح كان يلاحظ شيئاً من ذلك ويروقه مداراة القوم في ما يمسّ بكرامة الرسول للحصول على غايته الثمينة، لكنّا لا نوافقهم في كلّ ما يقولون: من انسلاله عن الدّين الحنيف إنسلالاً باتاً، فإنّه خلاف الثابت من سيرته حتّى عند رواة تلكم المخزيات، ومهملي الحقائق الناصعة، حذراً عمّا لا يلائم خطتهم، فلقد كان يراغم أُولئك الطواغيت بما هو أعظم من التظاهر بالإيمان والائتمام بالصلاة مع النّبي.
وإنّ شعره الطافح بذكر النبوّة والتصديق بها سرت به الركبان، وكذلك أعماله الناجعة حول دعوة الرسالة:
ولولاَ أبُو طَالب وابنُهُُ… لمّا مَثُلَ الّدِين شَخصاً فَقامَا
فَذاكَ بِمَكةَ آوى وحَامَا …وهذا بيثرِبَ جَسّ الحِمامَا
تَكفّل عَبدُ مُناف بِأمرٍ …وأَودىَ فَكَان عليٌ تَمامَا
فللِّه ذا فَاتِحُ للهُدَى… وللّه ذا للمَعالِي خِتامَا
وما ضَرّ مَجدُ أبي طَالب… عَدو لغا أو جَهولٌ تعامى
وأمّا أمير المؤمنين فيخرس البليغ عن أن يأتي على صفاته، ويقف الكاتب متردّداً وما عساه أن يقول في من قال فيه أبوه أبو طالب، لمّا فزعت قريش إليه ليلة ولادة أمير المؤمنين إذا أبصروا عجائب لم يروها ولم يسمعوا بها:
” أيّها الناس سيظهر في هذه الليلة وليّ من أولياء اللّه، يكمّل فيه خصال الخير، ويتمّ به الوصيّين، وهو إمام المتقين، وناصر الدّين، وقامع المشركين، وغيظ المنافقين، وزين العابدين، ووصيّ رسول ربِّ العالمين، إمام هدىً، ونجم علا، ومصباح دجىً، ومبيد الشرك والشبهات، وهو نفس اليقين “،ولم يزل يكرّر هذا القول وهو يتخلّل سكك مكة وأسواقها حتّى أصبح.
ويقول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ” ضربة علي عمرو بن ود تعدل عِبادة الثقلين “، وقال يوم خيبر: ” لأعطينّ الراية رجلاً يُحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله، لا يرجع حتّى يفتح على يديه فأعطاها لعلي (عليه السلام)، وكان الفتح على يده “.
وبعد هذا فلنقف عن الاتيان بما أودع اللّه فيه من نفسيات وغرائز، شكرها لَهُ الإسلام.
نعم، يجب أن نلفت القارئ إلى شيء أكثر البحث فيه رواة الحديث وهو: الإسلام حال الصغر، وتردّدت الكلمة في الجوامع، وتضاربت فيها الأقوال، ولا يهمنا إطالة القول فيها:
1 ـ فإنّا لا نقول: إنّ أمير المؤمنين أوّل من آمن وإن كان هو أوّل من وافق الرسول على مبدأ الإسلام لمّا صدع بالأمر، ولكنّا نقول: متى ” كفر ” علي حتّى يؤمن!! وإنّما كان هو وصاحب الدعوة الإلهية عارفين بالدّين وتعاليمه، معتنقين له، منذ كيانهما في عالم الأنوار قبل خلق الخلق، غير أنّ ذلك العالم مبدأ الفيض الأقدس ووجودهما الخارجي مجراه، فمحمّد نبيّ وعلي وصيّ وآدم بين الماء والطين صلّى اللّه عليهم أجمعين.
2 ـ على أنّ نبيّ الإسلام، وهو العارف بأحكامه، والذي خطّط لنا التكاليف قبل إسلام ابن عمِّه، وأنجز له جميع ما وعده به من الإخوّة والوصاية والخلافة، يوم أجاب دعوته وآزره على هذا الأمرّ وقد أُحجم عنه عندما نزلت آية: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.
وهل ترى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يومئذ يجد في شريعته عدم الجدوى بإسلام مثل علي (عليه السلام) لصغره، إلاّ أنّه حاباه، كلاّ وحاشا…!
وإنّما قابله بكلّ ترحيب، وخوّله ما لا يخوّل أحداً صحة إسلامه عنده، بحيث كان على أساس رصين، فاتخذه ردءاً، كمن اعتنق الدين عن قلب شاعر، ولبّ راجح، وعقلية ناضجة يغتنم بذلك محاماته ومرضاة أبيه في المستقبل:
وإذا أكبرنا النّبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كلّ مداهنة ومصانعة، فلا نجد مسرحاً في المقام لأيّ مقال إلاّ أن نقول: إنّ إسلام علي (عليه السلام)كان عن بصيرة وثبات مقبول عند اللّه ورسوله وكان ممدوحاً منهما عليه.
كما تمدّح بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) غير مرّة وهو أعرف الأُمّة بتعاليم الدّين بعد النّبي الكريم فقال: ” أنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي الاّ كاذب مفتر، صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين “.
وقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ” أنت أوّل المؤمنين إيماناً واسلاماً “، كما مدحته الصحابة بذلك، وهم أبصر من غيرهم يوم كانوا يغترفون من مستقى العلم ومنبع الدين.
وعلى هذا الأساس تظافر الثناء عليه من العلماء والمؤلّفين والشعراء وسائر طبقات الأُمّة بأنّه أوّل من أسلم، لكن هناك ضالع في سيره حسب شيئاً فخانته هاجسته وهوى إلى مدحره الباطل فقال: إنّ علياً أسلم وهو صغير!! يريد بذلك الحطّ من مقامه وليس هناك.
3 ـ ولو تنازلنا عن جميع ذلك فمن أين علمنا أن اشتراط البلوغ في التكليف كان مشروعاً في أوّل البعثة، فلعلّه كبقية الأحكام التدريجية نزل به الوحي فيما بعد، ولقد حكى الخفاجي في شرح الشفا ج3 ص125 في باب دعاء النّبي على صبي عن البرهان الحلبي والسبكي: أنّ اشتراط الأحكام بالبلوغ إنّما كان بعد واقعة أحد، وعن غيرهما أنّه بعد الهجرة، وفي السيرة الحلبية ج1 ص304 أنّ الصبيان يومئذ مكلّفون وإنّما رفع القلم عن الصبي عام خيبر. وعن البيهقي أنّ الأحكام إنّما تعلّقت بالبلوغ في عام الخندق أو الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز.
4 ـ على أنَّا معاشر الإمامية نعتقد في أئمة الدّين بأنّهم حاملو أعباء الحجة، متحلون بحلي الفضائل كلها، منذ الولادة، كما بُعِثَ عيسى في المهد نبيا، وأوتي الحكم يحيى صبيا، غير أنهم بين مأمور بالكلام أو مأمور بالسكوت حتى يأتي أوانه، فلهم أحكام خاصة غير أحكام الرعية، ومن أقلها قبول إجابة الدعوة ونحوها.
إذن، فلا مساغ لأي أحد البحث في المسألة.
هذه هي السلسلة الذهبية التي تحلّى بها أبو الفضل وهي (آباؤه الأكارم)، وقد اتحد مع كل حلقة منها الجوهر الفرد، لاثارة الفضائل، فما منهم إلا من أخذ بعضادتي الشرف، وملك أزِمّة المجد والخطر، قد ضم إلى طيب المحتد عظمة الزعامة، وإلى طهارة العنصر نزاهة الإيمان، فلا ترى أياًّ منهم إلا منار هدى، وبحر ندى، ومثال تقى، وداعية إلى التوحيد وإلى بسالة وبطولة وإباء وشمم، وهم الذين عرقوا في سيدنا العباس (عليه السلام) هذه الفضائل كلها، وإن كان القلم يقف عند انتهاء السلسلة إلى أمير المؤمنين، فلا يدري اليراع ما يخط من صفات الجلال والجمال، وأنه كيف عرفها في ولده المحبوب (قمر الهاشميين).

شارك هذه: