سلامة القرآن من التحريف 2

معنى التحريف
يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدة معان على سبيل الاشتراك، فبعض منها واقع في القرآن باتفاق من المسلمين، وبعض منها لم يقع فيه باتفاق منهم أيضا، وبعض منها وقع الخلاف بينهم. واليك تفصيل ذلك:

الأول: “نقل الشئ عن موضعه وتحويله إلى غيره” ومنه قوله تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ 1.

ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله فإن كل من فسر القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه فقد حرفه. وترى كثيرا من أهل البدع، والمذاهب الفاسدة قد حرفوا القرآن بأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم.

وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى، وذم فاعله في عدة من الروايات.

منها: رواية الكافي بإسناده عن الباقر عليه السلام أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير: “وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية…”2.

الثاني
: “النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه، وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره“.

والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعا، ومعنى هذا أن القرآن المنزل إنما هو مطابق لإحدى القراءات، وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه.

الثالث: “النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، مع التحفظ على نفس القرآن المنزل“.

والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام، وفي زمان الصحابة قطعا، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف غير ما جمعه، وهذا يدل على أن هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه، وإلا لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف، منهم عبد الله ابن أبي دود السجستاني، وقد سمى كتابه هذا بكتاب المصاحف. وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة إما من عثمان أو من كتاب تلك المصاحف، ولكنا سنبين بعد هذا إن شاء الله تعالى أن ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين، الذى تداولوه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدا بيد. فالتحريك بالزيادة والنقيصة إنما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان، وأما القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة.

وجملة القول: إن من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف – كما هو الصحيح –  فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الأول إلا أنه  قد انقطع في زمان عثمان، وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما القائل بتواتر المصاحف بأجمعها، فلا بد  له من الالتزام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن، وبضياع شيء منه. وقد مر عليك تصريح الطبري، وجماعة آخرين بإلغاء عثمان للحروف الستة التي نزلت بها القرآن، واقتصاره على حرف واحد3.

الرابع: “التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل، والتسالم على قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياها“.

والتحريف بهذا المعنى أيضا واقع في القرآن قطعا. فالبسملة – مثلا – مما تسالم المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأها قبل كل سورة غير سورة التوبة وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنة، فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة، إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف، وذهب جماعة أخرى إلى أن البسملة من القرآن.

وأما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبة، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضاً – وستعرف تفصيل ذلك عند تفسيرنا سورة الفاتحة – وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقيناً، بالزيادة أو بالنقيصة.

الخامس: “التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليسمن الكلام المنزل“.

والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة.

السادس
: “التحريف بالنقيصة، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء، فقد ضاع بعضه على الناس“.

والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون.

رأي المسلمين في التحريف
المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صرح بذكل كثير من الإعلام. منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه، وقد عد القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية. ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، وصرح بذلك في أول تفسيره “التبيان” ونقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى، واستدلاله على ذلك بأتم دليل. ومنهم المفسر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره “مجمع البيان”، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه “كشف الغطاء”وادعى الإجماع على ذلك ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه “العروة الوثقى” ونسب القول بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنهم المحدث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه4. ومنهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره “آلاء الرحمن”.

وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم. منهم شيخ المشايخ المفيد، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي، والمحقق القاضي نور الله، وأضرابهم. وممن يظهر منه القول بعدم التحريف: كل من كتب في الإمامة من علماء الشيعة  وذكر فيه المثالب، ولم يتعرض للتحريف، فلو كان هؤلاء قائلين بالتحريف لكان ذلك أولى بالذكر من إحراق المصحف وغيره.

وجملة القول: أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف. نعم ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة، وجمع من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف. قال الرافعي: فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شئ، حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه5 وقد نسب الطبرسي في “مجمع البيان”هذا القول إلى الحشوية من العامة.

أقول: سيظهر لك – بعيد هذا – أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة – عند علماء أهل السنة – يستلزم اشتهار القول بالتحريف.

الأدلة على عدم التحريف
والحق. أن التحريف “بالمعنى الذي وقع النزاع فيه” غير واقع في القرآن أصلا بالأدلة التالية:

الدليل الأول
– قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 6.

فإن في هذه الآية دلالة على حفظ القرآن من التحريف، وأن الأيدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه.

والقائلون بالتحريف قد أولوا هذه الآية الشريفة، وذكروا في تأويلها وجوها:

الأول: “أن الذكر هو الرسول” فقد ورد استعمال الذكر فيه في قوله تعالى:﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا7. ﴿رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾8.

وهذا الوجه بين الفساد: لان المراد بالذكر هو القرآن في كلتا الآيتين بقرينة التعبير”بالتنزيل والإنزال” ولو كان المراد هو الرسول لكان المناسب أن يأتي بلفظ “الارسال” أو بما يقاربه في المعنى، على أن هذا الاحتمال إذ تم في الآية الثانية فلا يتم في آية الحفظ، فإنها مسبوقة بقوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ9.

ولا شبهة في أن المراد بالذكر في هذه الاية هو القرآن، فتكون قرينة على أن المراد من الذكر في آية الحفظ هو القرآن أيضا.

الثاني: “أن يراد من حفظ القرآن صيانته عن القدح فيه، وعن إبطال ما يتضمنه من المعاني العالية، والتعاليم الجليلة“.

وهذا الاحتمال أبين فساداً من الأول: لان صيانته عن القدح إن أريد بها حفظه من قدح الكفار والمعاندين فلا ريب في بطلان ذلك، لان قدح هؤلاء في القرآن فوق حد الإحصاء. وان أريد أن القرآن رصين المعاني، قوي الاستدلال مستقيم الطريقة، وأنه لهذه الجهات ونحوها أرفع مقاما من أن يصل إليه قدح القادحين، وريب المرتابين فهو صحيح ولكن هذه ليس من الحفظ بعد التنزيل كما تقوله الآية، لان القرآن بما له من الميزات حافظ لنفسه، وليس محتاجا إلى حافظ آخر، وهو غير مفاد الآية الكريمة، لأنها تضمنت حفظه بعد التنزيل.

الثالث: “أن الآية دلت على حفظ القرآن في الجملة، ولم تدل على حفظ كل فرد من أفراد القرآن، فإن هذا غير مراد من الآية بالضرورة وإذا كان المراد حفظه في الجملة، كفى في ذلك حفظه عند الإمام الغائب عليه السلام“.

وهذا الاحتمال أوهن الاحتمالات: لان حفظ القرآن يجب أن يكون عند من انزل إليهم وهم عامة البشر، أما حفظه عند الإمام عليه السلام فهو نظير حفظه في اللوح المحفوظ، أو عند ملك من الملائكة، وهو معنى تافه يشبه قول القائل: إني أرسلت إليك بهدية وأنا حافظ لها عندي، أو عند بعض خاصتي.

ومن الغريب قول هذا القائل إن المراد في الآية حفظ القرآن في الجملة، لأحفظ كل فرد من أفراده، فكأنه توهم أن المراد بالذكر هو القران المكتوب، أو الملفوظ لتكون له أفراد كثيرة، ومن الواضح أن المراد ليس ذلك، لان القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجا، فلا يمكن أن يراد من آية الحفظ وإنما المراد بالذكر هو المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والمراد بحفظه صيانته عن التلاعب، وعن الضياع، فيمكن للبشر عامة أن يصلوا اليه، وهو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة، فإنا نريد من حفظها صيانتها، وعدم ضياعها بحيث يمكن الحصول عليها.

شبهة وقوع التحريف في آية الحفظ
نعم هنا شبهة أخرى ترد على الاستدلال بالآية الكريمة على عدم التحريف.

وحاصل هذه الشبهة أن مدعي التحريف في القرآن يحتمل وجود التحريف في هذه الآية نفسها، لأنها بعض آيات القرآن، فلا يكون الاستدلال بها صحيحا حتى يثبت عدم التحريف، فلو أردنا أن نثبت عدم التحريف بها كان ذلك من الدور الباطل.

وهذه الشبهة تدل على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهية، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم، فإنه لا يسعه دفع هذه الشبهة، وأما من يرى أنهم حجج الله على خلقه، وأنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك فلا ترد عليه هذه الشبهة، لان استدلال العترة بالكتاب، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجية الكتاب الموجود، وإن قيل بتحريفه، غاية الأمر أن حجية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقفة على إمضائهم.

الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ10.

فقد دلت هذه الآية الكريمة على نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب فإن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم، ولا شبهة في أن التحريف من أفراد الباطل، فيجب أن لا يتطرق إلى الكتاب العزيز.

وقد أجيب عن هذا الدليل
بأن المراد من الاية صيانة الكتاب من التناقض في أحكامه، ونفي الكذب عن أخباره، واستشهد لذلك برواية علي بن إبراهيم القمي، في تفسيره عن الإمام الباقر عليه السلام قال: “لا يأتيه الباطل من قبل التوراة، ولا من قبل الإنجيل، والزبور، ولا من خلفه أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله” ورواية مجمع البيان عن الصادقين عليهم السلام أنه:”ليس في إخباره عما مضى باطل، ولا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل“.

ويرد هذا الجواب
أن الرواية لا تدل على حصر الباطل في ذلك، لتكون منافية لدلالة الآية على العموم، وخصوصا إذا لا حظنا الروايات التي دلت على أن معاني القرآن لا تختص بموارد خاصة، فالآية دالة على تنزيه القرآن في جميع الأعصار عن الباطل بجميع أقسامه، والتحريف م أظهر أفراد الباطل فيجب أن يكون مصونا عنه، ويشهد لدخول التحريف في الباطل، الذي نفته الآية عن الكتاب أن الآية وصفت الكتاب بالعزة وعزة الشئ تقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع، أما إرادة خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل في الآية الكريمة، فلا يناسبها توصيف الكتاب بالعزة.

شبهة روايات التحريف
إن الروايات المتواترة عن أهل البيت عليهم السلام قد دلت على تحريف القرآن فلا بد من القول به:

والجواب
إن هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه، وتوضيح ذلك: أن كثيرا من الروايات، وإن كانت ضعيفة السند، فإن جملة منها نقلت من كتاب أحمد بن محمد السياري، الذي اتفق علماء الرجال على فساد مذهبه، وأنه يقول بالتناسخ، ومن علي بن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال أنه كذاب، وأنه فاسد المذهب إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها.

لذا فإن علينا أن نبحث عن مداليل هذه الروايات، وإيضاح أنها ليست متحدة في المفاد، وأنها على طوائف. فلا بد لنا من شرح ذلك والكلام على كل طائفة بخصوصها.

الطائفة الأولى: هي الروايات التي دلت على التحريف بعنوانه، وأنها تبلغ عشرين رواية، نذكر جملة منها ونترك ما هو بمضمونها. وهي:

1- ما عن علي بن إبراهيم القمي، بإسناده عن أبي ذر. قال: “لما نزلت هذه الآية: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ10. قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ترد أمتي علي يوم القيامة على خمس رايات. ثم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يسأل الرايات عما فعلوا بالثقلين. فتقول الراية الأولى: أما الأكبر فحرفناه، ونبذناه وراء ظهورنا، وأما الأصغر فعاديناه، وأبغضناه، وظلمناه. وتقول الراية الثانية: أما الأكبر فحرفناه، ومزقناه، وخالفناه، وأما الأصغر فعاديناه وقاتلناه…”.

2- ما عن ابن طاووس، والسيد المحدث الجزائري، بإسنادهما عن الحسن ابن الحسن السامري في حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال لحذيفة فيما قاله في من يهتك الحرم: “إنه يضل الناس عن سبيل الله، ويحرف كتابه، ويغير سنتي“.

3- ما عن سعد بن عبد الله القمي، بإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: “دعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بمنى. فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين – أما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي – والكعبة البيت الحرام ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما كتاب الله فحرفوا، وأما الكعبة فهدموا، وأما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله قد نبذوا ومنها قد تبرأوا“.

4- ما عن الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر عن النبي قال: “يجئ يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف: يارب حرفوني ومزقوني، ويقول المسجد: يارب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة يارب قتلونا، وطردونا، وشردونا..”.

5 – ما عن الكافي والصدوق، باسنادهما عن علي بن سويد. قال: “كتبت إلى أبي الحسن موسى صلى الله عليه واله وسلم وهو في الحبس كتابا إلى أن ذكر جوابه عليه السلام بتمامه، وفيه قوله عليه السلام اؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه“.

6 – ما عن ابن شهراشوب، بإسناده عن عبد الله في خطبة أبي عبد الله الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، وفيها : “إنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب“.

7 – ما عن كامل الزيارات، بإسناده عن الحسن بن عطية، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “إذا دخلت الحائر فقل: اللهم العن الذين كذبوا رسلك، وهدموا كعبتك، وحرفوا كتابك…”.

8 – ما عن الحجال عن قطبة بن ميمون عن عبد الأعلى. قال: “قال أبو عبد الله عليه السلام أصحاب العربية يحرفون كلام الله عز وجل عن مواضعه“.

المفهوم الحقيقي للروايات
والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: أن الظاهر من الرواية الأخيرة تفسير التحريف باختلاف القراء، وإعمال اجتهاداتهم في القراءات. ومرجع ذلك إلى الاختلاف في كيفية القراءة مع التحفظ على جوهر القرآن وأصله وقد أوضحنا للقارئ في صدر المبحث أن التحريف بهذا المعنى مما لا ريب في وقوعه، بناء على ما هو الحق من عدم تواتر القراءات السبع، بل ولا ريب في وقوع هذا التحريف، بناء على تواتر القراءات السبع أيضا، فإن القراءات كثيرة، وهي مبتنية على اجتهادات ظنية توجب تغيير كيفية القراءة. فهذه الرواية لا مساس لها بمراد المستدل.

وأما بقية الروايات، فهي ظاهرة في الدلالة على أن المراد بالتحريف حمل الآيات على غير معانيها، الذي يلازم إنكار فضل أهل البيت عليهم السلام ونصب العداوة لهم وقتالهم. ويشهد لذلك – صريحا – نسبة التحريف إلى مقاتلي أبي عبد الله عليه السلام في الخطبة المتقدمة.

الطائفة الثانية: هي الروايات التي دلت على أن بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذكرت فيها أسماء الأئمة – عليهم السلام – وهي كثيرة:

منها: ما ورد من ذكر أسماء الأئمة – عليهم السلام – في القرآن، كرواية الكافي بإسناده عن محمد بن الفضيل بن أبي الحسن عليه السلام قال: “ولاية علي بن أبي طالب مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولا إلا بنبوة محمد وولاية وصيه صلى الله عليهما وآلهما“.

ومنها: رواية العياشي بإسناده عن الصادق عليه السلام: “لو قُرئ القرآن – كما أنزل – لالفينا مسمين“.

ومنها: رواية الكافي، وتفسير العياشي عن أبي جعفر – عليه السلام – وكنز الفوائد بأسانيد عديدة عن ابن عباس، وتفسير فرات بن إبراهيم الكوفي بأسانيد متعددة أيضا، عن الاصبغ بن نباتة. قالوا: قال أمير المؤمنين عليه السلام “القرآن نزل على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن”.

ومنها: رواية الكافي أيضا بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: “نزل جبرائيل بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هكذا: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا – في علي – فأتوا بسورة من مثله“.

والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة
أن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه، فلا بد من حمل هذه الروايات على أن ذكر أسماء الأئمة عليهم السلام في التنزيل من هذا القبيل، وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بد من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب، والسنة، والأدلة المتقدمة على نفي التحريف. وقد دلت الأخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب والسنة وأن ما خالف الكتاب منها يجب طرحه، وضربه على الجدار.

ومما يدل على أن اسم أمير المؤمنين عليه السلام لم يذكر صريحا في القرآن حديث الغدير، فإنه صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما نصب عليا بأمر الله، وبعد أن ورد عليه التأكيد في ذلك، وبعد أن وعده الله بالعصمة من الناس، ولو كان اسم “علي” مذكورا في القرآن لم يحتج إلى ذلك النصب، ولا إلى تهيئة ذلك الاجتماع الحافل بالمسلمين، ولما خشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إظهار ذلك، ليحتاج إلى التأكيد في أمر التبليغ.

وعلى الجملة: فصحة حديث الغدير توجب الحكم بكذب هذه الروايات التي تقول: إن أسماء الأئمة مذكورة في القرآن ولا سيما أن حديث الغدير كان في حجة الوداع التي وقعت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه واله وسلم ونزول عامة القرآن، وشيوعه بين المسلمين، على أن الرواية الأخيرة المروية في الكافي مما لا يحتمل صدقه في نفسه، فإن ذكر اسم علي عليه السلام في مقام إثبات النبوة والتحدي على الإتيان بمثل القرآن لا يناسب مقتضى الحال. ويعارض جميع هذه الروايات صحيحة أبي بصير المروية في الكافي. قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم11.

قال: فقال نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام فقلت له: إن الناس يقولون فما له لم يسم عليا وأهل بيته في كتاب الله. قال عليه السلام: فقولوا لهم إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا، ولا أربعا، حتى كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هو الذى فسر لهم ذلك…”12.

فتكون هذه الصحيحة حاكمة على جميع تلك الروايات، وموضحة للمراد منها، وأن ذكر اسم أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الروايات قد كان بعنوان التفسير، ويضاف إلى ذلك أن المتخلفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجوا بذكر اسم علي في القرآن، ولو كان له ذكر في الكتاب لكان ذلك أبلغ في الحجة، ولا سيما أن جمع القرآن – بزعم المستدل – كان بعد تمامية أمر الخلافة بزمان غير يسير، فهذا من الأدلة الواضحة على عدم ذكره في الآيات.

الطائفة الثالثة: هي الروايات التي دلت على وقوع التحريف في القرآن بالزيادة والنقصان، وان الأمة بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم غيرت بعض الكلمات وجعلت مكانها كلمات أخرى.

فمنها: ما رواه علي بن ابراهيم القمي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ13.

ومنها: ما عن العياشي، عن هشام بن سالم. قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ14. قال: هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين، فوضعوا اسما مكان اسم. أي أنهم غيرا فجعلوا مكان آل محمد آل عمران.

والجواب
عن الاستدلال بهذه الطائفة -بعد الإغضاء عما في سندها من الضعف- أنها مخالفة للكتاب، والسنة، ولإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرفا واحدا حتى من القائلين بالتحريف. وقد ادعى الإجماع جماعة كثيرون على عدم الزيادة في القرآن، وأن مجموع ما بين الدفتين كله من القرآن. وممن ادعى الإجماع الشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشيخ البهائي، وغيرهم من الأعاظم قدس الله أسرارهم. وقد تقدمت رواية الاحتجاج الدالة على عدم الزيادة في القرآن.

الطائفة الرابعة: هي الروايات التي دلت على التحريف في القرآن بالنقيصة فقط.

والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة
أنه لا بد من حملها على ما تقدم في معنى الزيادات في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام وإن لم يمكن ذلك الحمل في جملة منها فلا بد من طرحها لأنها مخالفة للكتاب والسنة، وقد ذكرنا لها في مجلس بحثنا توجيهاً آخر أعرضنا عن ذكره هنا حذراً من الإطالة، ولعله أقرب المحامل، ونشير إليه في محل آخر إن شاء الله تعالى.

على أن أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند. وبعضها لا يحتمل صدقه في نفسه. وبعضها لا يحتمل صدقة في نفسه. وقد صرح جماهة من الأعلام بلزوم تأويل هذه الروايات أو لزوم طرحها.

وممن صرح بذلك المحقق الكلباسي حيث قال على ما حكي  عنه: “أن الروايات الدالة على التحريف مخالفة لإجماع الأمة  إلا من لا اعتداء به… وقال: إن نقصان الكتاب مما لا أصل له وإلا لاشتهر وتواتر، نظراً إلى العادة في الحوادث العظيمة. وهذا منها بل أعظمها”.

وعن المحقق البغدادي شارح الوافية التصريح بذلك، ونقله عن المحقق الكركي الذي صنف في ذلك رسالة مستقلة، وذكر فيه: “أن ما دل من الروايات على النقيصة لا بد من تأويلها أو طرحها، فإن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب، والسنة المتواترة، والإجماع، ولم يمكن تأويله، ولا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه”.

أقول: أشار المحقق الكركي بكلامه هذا ما أشرنا إليه – سابقاً –   من أن الروايات المتواترة قد دلت على أن الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها. فمن تلك الروايات:

ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن على بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام:

الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه..”15.

وما رواه الشيخ الجليل سعيد بن هبة الله “القطب الراوندي” بسنده الصحيح إلى الصادق عليه السلام:

إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه…”16.

رأي العلماء في هذه الروايات
وقد صرح جماعة من الأعلام بلزوم تأويل هذه الروايات أو لزوم طرحها.

وممن صرح بذلك المحقق الكلباسي حيث قال على ما حكي عنه: “أن الروايات الدالة على التحريف مخالفة لإجماع الأمة إلا من لا اعتداد به… وقال: إن نقصان الكتاب مما لا أصل له وإلا لاشتهر وتواتر، نظرا إلى العادة في الحوادث العظيمة. وهذا منها بل أعظمها“.

وعن المحقق البغدادي شارح الوافية التصريح بذلك، ونقله عن المحقق الكركي الذي صنف في ذلك رسالة مستقلة، وذكر فيها: “أن ما دل من الروايات على النقيصة لا بد من تأويلها أو طرحها، فإن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب، والسنة المتواترة، والإجماع، ولم يمكن تأويله، ولا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه“.

أقول: أشار المحقق الكركي بكلامه هذا إلى ما أشرنا إليه – سابقا – من أن الروايات المتواترة قد دلت على أن الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها.

فمن تلك الروايات
ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام :”الوقوف عند الشبهه خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه…”17.

وما رواه الشيخ الجليل سعيد بن هبة الله “القطب الراوندي” بسنده الصحيح إلى الصادق عليه السلام: “إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه…”18.

*السيد الخوئي ـ البيان في تفسير القرآن، ص197- 202، 207-211، 226ـ235.


1- النساء: 46.
2- الوافي آخر كتاب الصلاة ص274.
3- في موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف ص196 من هذا الكتاب.
4- الوافي ج5 ص274، وعلم اليقين ص130.
5- إعجاز القرآن ص 41.
6- الحجر:9.
7- الطلاق:10.
8- الطلاق:11.
9- الحجر:6.
10- فصلت:41-42
11- النساء:59.
12-  الوافي ج 2 باب 30 ما نص الله ورسوله عليهم ص 63.
13- الفاتحة:7.
14- آل عمران:33.
15- الوسائل ج3 كتاب القضاء. باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة، وكيفية العمل، ص380.
16- المصدر السابق.
17- الوسائل گ 3 كتاب القضاء. باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة، وكيفية العمل، ص 380.
18- المصدر السابق.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *