تواتر القراءات السبع

القراءات السبع تواترها، وجواز القراءة والاستدلال بها بداية
إن من الأمور الواضحة أن اللازم هو أن يقرأ القرآن الكريم على نفس النهج والأسلوب والطريقة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وأهل بيته يقرأونه بها. وقد تلقى أصحابه هذه الطريقة منه صلى الله عليه وآله شفاها وسماعا – لا كتابة – إذ أن ما كتب آنئذ لم يكن له نقط ولا حركات إعرابية.

والذي كان يقرأه النبي صلى الله عليه وآله وتلقاه عنه أصحابه هو القرآن الذي هو اسم للألفاظ القرآنية بموادها وصورها، فلا يقال لبعض كلماته الفاقدة للصورة أو للمادة أنها قرآن. نعم، لا يدخل في مسمى القرآن وتحت عنوانه بعض الحالات القرآنية كالسكون والوصل ونظيرهما، إذ يصدق القرآن على ما كان فاقداً لمثل هذه الحالات، وهذا لا ينافي وجوب مراعاتها في الصلاة، وفيما كان في قراءته ثواب من السور القرآنية على ما ثبت في محله، حيث قد ثبت ثمة أن المعتبر في ذلك هو القراءة الصحيحة شرعاً وعرفاً.

إذاً فلابد من تشخيص المواد القرآنية وصورها التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وتلقاها الصحابة والتابعون منه ليقرأ بهما. وفي هذا المجال يقع البحث في الأمور الثلاثة التالية:

أولاً: تواتر القراءات، سبعة كانت أو أكثر.

ثانياً: جواز القراءة بها، وإن لم يثبت تواترها.

ثالثاً: جواز الاستدلال بها على الأحكام.

وفيما يلي شرح موجز عن كل واحد من هذه الأمور

 (أولا) تواتر القراءات
لا يخفى أن بعض العلماء قد ادعى تواتر القراءات السبع – أعني قراءات: ابن عامر الدمشقي، وابن كثير المكي، وعاصم الكوفي، وأبو عمرو ابن العلاء البصري، وحمزة الكوفي، ونافع المدني، والكسائي الكوفي – وبعضهم ادعى تواتر ثلاث أخر مع هذه السبع، وهي قراءة خلف ويعقوب ويزيد بن القعقاع.

فممن ادعى ذلك
1- العلامة الحلي قدس سره حيث قال: يجوز أن يقرأ بأي قراءة شاء من السبع، لتواترها أجمع1.

2- الشهيد الأول (الشيخ محمد بن مكي العاملي أعلى الله مقامه) حيث قال: يجوز القراءة بالمتواتر، ولا يجوز بالشواذ، ومنع بعض الأصحاب من قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف وهي كمال العشر، والأصح جوازها، لثبوت تواترها كثبوت قراءة القراء السبعة2.

3- الحاجبي والعضدي في المنهاج، استنادا إلى أنه لو لم تكن السبع متواترة للزم أن لا تكون بعض القراءات متواترة، كمالك وملك، ونحوهما. وهو باطل. ثم ذكرا أوجه الملازمة المذكورة3.

4- المشهور عند علماء أهل السنة، على ما نسب إليهم4. قال أبو شامة5 في مرشده: قد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة، أي فرد فرد ما روي عن هؤلاء الأئمة السبعة. قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب، ونحن بهذا نقول، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق6.

5- أحمد بن محمد الشهير بالبناء، حيث إنه – بعد أن نقل عن بعض: أن القراءات العشر متواترة ومعلومة من الدين بالضرورة، وأنها منزلة على رسول الله صلى الله عليه وآله – قال: والحاصل: أن السبع متواترة اتفاقا، وكذا الثلاث على الأصح، وهو الذي تلقيناه من عامة شيوخنا7.

هذا، ولكننا نجد في المقابل أن كثيرا من العلماء قد صرحوا بعدم تواتر القراءات، ونذكر منهم

1- أبو شامة، قال في كتابه المرشد الوجيز: لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وأنها كذلك أنزلت – إلى أن قال: – والقراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ8.

2- ابن الجزري، قال: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصح سندها فهي القراءة الصحيحة – إلى أن قال: – ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أو عمن هو أكبر منهم. هذا هو المحقق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني9.

3- الرافعي، وقد قال: وقراءات هؤلاء السبعة هي المتفق عليها إجماعاً، ولكل منهم سند في روايته وطريق الرواية عنه، وكل ذلك محفوظ ثبت في كتب هذا العلم10.

ويستفاد من قوله: “هي المتفق عليها إجماعاً” هو أن القراءات حجة بالإجماع، لا أنها قراءات النبي صلى الله عليه وآله معلومة بالتواتر، ويشهد لهذا قوله فيما بعد “والسبب في الإقتصار على السبعة هو أنهم مشهورون بالثقة والأمانة وطول العمر”. وواضح أن القراءات لو كانت متواترة لما عبر بهذه التعبيرات.

ومن الإمامية نذكر
4- الشهيد الثاني (زين الدين بن علي الجبعي العاملي رحمه الله) حيث قال في شرح الألفية: واعلم أنه ليس المراد أن كل ما ورد من هذه القراءات متواتر، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات، فإن بعض ما نقل من السبعة شاذ، فضلا عن غيرهم، كما حققه جماعة من أهل هذا الشأن11.

5- السيد الجزائري رحمه الله، فإنه بعد أن قال بعدم التواتر قال: نعم، اتفق التواتر في الطبقات اللاحقة12.

6- الميرزا القمي رحمه الله قال: إن كان المراد من تواتر القراءات تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله فيشكل على ما ذكرنا في القانون السابق، وإن كان المراد تواترها عن الأئمة – بمعنى تجويزهم قراءتها والعمل على مقتضاها – فهذا هو الذي يمكن أن يدعى معلوميته من الشارع، لأمرهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس.

7- الشيخ الأنصاري في الفرائد، والشيخ الخراساني في كفاية الأصول، والشيخ الحائري اليزدي في كتاب الصلاة، والإمام الخوئي في تفسير البيان، وغيرهم ممن قارب هذا العصر، ممن يقول بعدم تواتر القراءات، مع القول بجواز القراءة بكل من القراءات السبع.

تلك هي الأقوال في تواتر القراءات وعدمها، وهي توضح أنه لا إجماع على تواتر القراءات ولا على عدمه، ومن هنا فلا مضايقة في أن يختار الباحث أيا من القولين، إذا قام لديه الدليل على ضرورة أو رجحان الالتزام به، ولا يكون بذلك مخالفا للإجماع، ولا لما هو معلوم بالضرورة.

اختلاف القراءات على نحوين
أحدهما:
الاختلاف في المواد، الناشئ عن الفهم الخاطئ لحديث “نزل القرآن على سبعة أحرف” حيث فهم منه عبد الله بن مسعود وغيره من القراء جواز قراءة القرآن على سبعة أنحاء، بمعنى أنه يجوز تبديل الألفاظ القرآنية بمرادفاتها، وقد نقل عن ابن مسعود أنه بدل قوله تعالى: ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ13 بقوله “كالصوف المنفوش” وبدل أبي بن كعب قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ14 بقوله “مروا فيه” أو “سعوا فيه”. وقرأ أنس: ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا15: “وأصوب قيلاً” معللا ذلك بأن أصوب وأقوم وأهيأ بمعنى واحد.

وبعد أن اشتد هذا التبديل وبلغ حدا أفزع حذيفة فقدم على عثمان، وقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، وفي رواية: أن عثمان قال له: وما ذلك ؟ قال حذيفة: إن أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضا.

وقد قدمنا في مقال سابق أن معنى حديث ” نزل القرآن على سبعة أحرف ” ليس هو على ما فهمه ابن مسعود، بل المراد هو وجود المعاني فراجع16.

وكيف كان، فقد أمر عثمان عدة من الصحابة بكتابة مصحف مطابق للمصحف الذي كتب في عصر أبي بكر، عن ذلك الذي كتب في عصر النبي صلى الله عليه وآله وجمع الناس على قراءة واحدة مطابقة للألفاظ الواردة فيه وقضى على الألفاظ المترادفة ولم يبق منها شيئاً.

ثانيهما: الاختلاف في صور الألفاظ القرآنية، والظاهر أن منشأ هذا هو خلو المصاحف عن النقط والشكل، حيث إن الكلمات الخالية عن ذلك يختلف الناس في قراءتها بحسب أذواقهم وأفهامهم.

وقد بدأ هذا الاختلاف بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وصحابته الذين سمعوا القرآن منه فكانوا يقرأونه حسب سماعهم، والقرآن في عهدهم مسموع لا مكتوب.

وأما البعيدون عن مركز الدعوة وعن النبي صلى الله عليه وآله وصحابته فلابد وأن يعتمدوا على القرآن المكتوب لا المسموع، والمكتوب كان فاقدا للنقط والإعراب مما يوجب اختلافهم في كيفية قراءته، ثم يزيد الاختلاف بازدياد القراء باستمرار.

وكمثال على ذلك نشير إلى الاختلاف الواقع في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ17.

ففي قوله “أأنذرتهم” قرأ عاصم وحمزة والكسائي بهمزتين، وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بالمد وتليين الهمزة الثانية، وقرأ ابن عامر بألف بين همزتين، نقل هذه القراءات الثلاث الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان.

وقرأ ابن محيض بهمزة واحدة على لفظ الخبر، وهمزة الاستفهام مرادة. وقرأ الأكثرون على لفظ الاستفهام، إلا أن أكثر العرب لا يحقق الهمزتين، لأن الهمزة تخرج بكلفة، فالنطق بها يشبه التهوع. ومنهم من يحقق الأولى ويجعل الثانية بين بين، أي بين الهمزة والألف. ومنهم من يجعل الثانية ألفا صحيحا، كما فعل ذلك في آدم. ومنهم من يحقق الهمزتين ويفصل بينهما بألف. ومن العرب من يبدل الأولى هاء ويحقق الثانية. هذا ما ذكره بعض وقال أيضا: أما ” عليهم ” ففيه عشر لغات، وكلها قد قرئ به18. ويشهد لما قلنا – من أن المصاحف التي كتبت في زمن عثمان كانت خالية من النقط والإعراب وأن ذلك كان منشأ اختلاف في القراءة – ما ذكره ابن الجزري، حيث قال في ضمن كلام له: إن المصاحف كتبت في خلافة عثمان من المصحف الذي كان عند حفصة، فوجه بمصحف إلى البصرة ومصحف إلى الكوفة ومصحف إلى الشام، وترك مصحفا بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفا الذي يقال له الإمام، ووجه بمصحف إلى مكة وبمصحف إلى اليمن وبمصحف إلى البحرين – إلى أن قال: – وجردت المصاحف جميعا من النقط والشكل، ليحتملها ما صح نقله وثبت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وآله، إذ كان الاعتماد على الحفظ لا مجرد الخط19.

ثم قال ما حاصله: ثم إن القراء كثروا، وكثر بينهم الاختلاف، وكاد الباطل يلتبس بالحق، فقام جهابذة علماء الأمة، فبالغوا في الاجتهاد، وبينوا الحق المراد، وميزوه بأصول أصلوها، ونعول كما عولوا عليها، فنقول: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة، سواء كانت عن الأئمة السبعة أو العشرة أم عن غيرهم.

ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة اطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أو عمن هو أكبر منهم20.

ويستفاد من كلامه أنه لا يقول بتواتر القراءات كما سبق، وإلا لما صح منه تأسيس أصل للصحة وعدمها. ويبدو أن هذا هو الحق، وذلك لأمور

أولاً: ما ذكره أصحاب التراجم من أنه ليس لمشايخ القراءات أسانيد كثيرة جامعة لشروط التواتر، الذي معناه امتناع اجتماع الرواة على الكذب عادة.

هذا، ولو سلمنا التواتر فإنما هو عن المشايخ السبعة فقط كما عن الزركشي في البرهان الذي قال: إن القراءات السبع متواترة عند الجمهور، وقيل: بل هي مشهورة، والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله ففيه نظر21.

ثانياً: ما قيل من أننا ولو سلمنا التواتر في الطبقات السابقة واللاحقة بهم لكن التواتر منقطع بهؤلاء المشايخ أنفسهم، لأنهم تفردوا برواية قراءاتهم لتلامذتهم.

ثالثاً: أن طعن بعض العلماء على بعض القراء السبعة يكشف عن عدم التواتر، إذ لا يجوز الطعن في المتواتر. فقد نقل عن أحمد إمام الحنابلة أنه يكره أن يصلي خلف من يصلي بقراءة حمزة. وعن ابن مهدي أنه قال: لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره وبطنه22.

رابعاً: أن المراد من “نزول القرآن على سبعة أحرف” الوارد في الحديث ليس هو القراءات السبع، حتى تكون متواترة لتواتر حديث سبعة أحرف، بمعنى أن الدال على القراءات متواتر فتكون القراءات نفسها ثابتة لثبوت ما يدل عليها. إذ من الواضح، أنه لا تلازم بينهما، إذ يمكن أن يكون الحديث متواترا والقراءات نفسها غير متواترة. هذا عدا عن أن المقصود به هو وجوه المعاني لا القراءات حسب ما أوضحناه.

وعن أبي شامة وابن عمار ومكي: أن من ظن أن القراءات السبع هي المذكورة في حديث “نزل القرآن على سبعة أحرف” فقد غلط غلطا عظيما، أو كان من الجهل، أو خلاف الإجماع23.

وخلاصة القول: إن تواتر القراءات سبع كانت أو أكثر لم يثبت، ولا إجماع عليه لا عند الإمامية ولا عند غيرهم، فللباحث إذا أن يطلب دليلا على جواز القراءة بالقراءات كلا أو بعضا نفيا أو إثباتا، من دون أن يخاف من إجماع الأمة على التواتر.

(ثانياً) جواز القراءة بالقراءات
 وأما عن جواز القراءة بهذه القراءات ولو لم تكن متواترة فقد اتفق العلماء على جواز ذلك في الجملة، ولكنهم اختلفوا في شروط الجواز، وإليك بعض أقوالهم في ذلك، فمن الإمامية:

1- قال الشيخ الطبرسي رحمه الله: إن الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء بينهم من القراءات، إلا أنهم اختاروا القراءة بما جاز بين القراء، وكرهوا تجريد قراءة مفردة24.

2- وقال العلامة الحلي قدس سره: يجوز أن يقرأ بأي قراءة شاء من السبع، لتواترها أجمع، ولا يجوز أن يقرأ بالشاذ، وأحب القرآن إلي ما قرأه عاصم، من طريق أبي بكر بن عياش، وقراءة أبي عمرو ابن أبي العلاء25.

3- وقال الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي رحمه الله: يجوز القراءة بالمتواتر، ولا يجوز بالشواذ، ومنع بعض الأصحاب من قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف. وهي كمال العشر، والأصح جوازها، لثبوت تواترها، كثبوت قراءة القراء السبعة26.

4- ما عن حاشية المدارك للبهبهاني رحمه الله: إن المراد بالمتواتر ما تواتر صحة قراءته في زمان الأئمة، بحيث يظهر أنهم كانوا يرضون به، ويصححون ويجوزون ارتكابه في الصلاة27.

5- ما قاله بعض من قارب هذا العصر، كقول السيد محمد كاظم الطباطبائي رحمه الله في العروة الوثقى: الأحوط القراءة بإحدى القراءات السبع، وإن كان الأقوى عدم وجوبها، بل يكفي القراءة على النهج العربي.

وقال الإمام الخوئي دام ظله في تعليقته على الكتاب: فيه منع ظاهر، فإن الواجب إنما هو قراءة القرآن بخصوصه لا ما تصدق عليه القراءة العربية الصحيحة. نعم، الظاهر جواز الاكتفاء بكل قراءة متعارفة عند الناس، ولو كانت من غير السبع.

وقال الإمام الخميني دام ظله في تعليقته على العروة: الأولى الأحوط قراءة الحمد والتوحيد على النحو المعروف بين عامة الناس والمكتوب في المصحف.

هذا من أقوال بعض الإمامية. وأما عن غيرهم فنذكر

1- ابن الجزري، وقد سبق قوله بأن لصحة القراءات ضابطة مركبة من أركان ثلاثة، فراجع28.

2- وقال ابن قدامة: ويقرأ بما في مصحف عثمان، ونقل عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق إسماعيل بن جعفر.

قال: فإن لم يكن فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عياش. وأثنى على قراءة أبي عمرو ابن العلاء، ولم يكره قراءة أحد من العشرة إلا قراءة حمزة والكسائي، لما فيهما من الكسر والإدغام والتكلف وزيادة المد29.

3- ما عن سيبويه من أنه أنكر قراءة أبي عمرو في إسكان كلمة “بارئكم” و”يأمركم30.

4- ما عن بعض وقد بالغ في الإشادة بالقراءات السبع قائلا: من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر31.

5- ما عن بعض أيضا من المبالغة في توهين القراءات السبع، والغض من شأنها، فيزعم أنه لا فرق بينها وبين سائر القراءات، ويحكم بأن الجميع روايات آحاد. ويستدل على ذلك بأن القول بتواترها أمر منكر32.

والذي يقتضيه النظر هنا – كما قيل – هو أن القرآن اسم للكلام الخاص الشخصي غير القابل للتعدد والاختلاف. ويؤيده ما في أخبارنا من أن القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجئ من قبل الرواة33. وأيضا فإن الأمر بقراءة القرآن إنما هو أمر بحكاية ألفاظه بقدر الإمكان، لا القراءة على النهج العربي كيف كان.

وحيث لم يثبت تواتر القراءات فلابد وأن ينظر في أسانيد تلك الأخبار التي هي آحاد غير متواترة، فأي قراءة نقلت بسند جامع لشروط الحجية اخذ بها، وإلا فلابد من الاحتياط بتكرار القراءات في صلاة واحدة أو في صلوات. هذا مع قطع النظر عن الإجماع المنقول من الإمامية ومن غيرهم، نقلا متواترا على أن كل واحدة من القراءات السبع تكفي في القراءة وتجزي.

ويؤيده بل يدل عليه ما في أخبارنا من الأمر بقراءة القرآن، لدرك فيوضاته وتحصيل الثواب الجزيل عليه، وهي كثيرة جدا، وقد عقد الشيخ الحر العاملي رضوان الله عليه في كتابه “وسائل الشيعة” ما يقرب من خمسين بابا34، وهي دالة على جواز القراءات الشائعة في عصر الأئمة عليهم السلام، لأن كل شيعي إذا سمع من إمامه الحث على قراءة القرآن وأراد أن يمتثل ذلك فإنه يقرأ بما كان متداولا في بلده وشائعا عنده.

ويؤيده أيضاً ما في أخبار كثيرة دالة على أن الأئمة عليهم السلام كانوا يأمرون شيعتهم بقراءة ما يقرأه الناس وينهونهم عن القراءة بغيره، وهي ذات تعبيرات مختلفة، ففي بعضها: “اقرأوا كما علمتم35 وفي آخر: “اقرأوا كما تعلمتم36 وفي ثالث – حينما ذكر الراوي أنه يسمع حروفا من القرآن ليست على ما يقرأ الناس، قال له الإمام عليه السلام -: “اقرأ كما يقرأ الناس” 37.

أي القراءات أرجح؟
هذا بالنسبة إلى أصل جواز القراءة بالقراءات، وأما أيها أرجح فلا يبعد أن يقال: إن الراجح من بين القراءات هو القراءة بما في القرآن الكريم الذي بين أيدينا، فإن المعروف هو موافقته لقراءة عاصم، الذي أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي. وروى عن حفص الأسدي أنه قال: قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عليه السلام38.

وقال ابن الجزري: كان عاصم الإمام الذي انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد أبي عبد الرحمن السلمي، جلس موضعه، ورحل الناس إليه للقراءة، وكان قد جمع بين الفصاحة والإتقان، والتحرير والتجويد، وكان أحسن الناس صوتا بالقرآن.

قال أبو بكر بن عياش: لا أحصي ما سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: ما رأيت أحدا أقرأ للقرآن من عاصم. وقال عبيد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عاصم فقال: رجل صالح ثقة خير39.

وقد سبق قول العلامة: أحب القرآن إلي ما قرأه عاصم من طريق أبي بكر بن عياش، وقراءة أبي عمرو ابن العلاء40.

(ثالثا) جواز الاستدلال بكل واحد من القراءات
وأما الأمر الثالث والأخير فهو جواز الاستدلال بكل واحد من القراءات، ولا يخفى أن جواز القراءة بالقراءات المختلفة لا يستلزم جواز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، لأن ما يدل على جواز القراءة بالقراءات كلاً أو بعضاً إنما يدل على جواز القراءة بها فقط، وأما الاستدلال بمضمونها ومدلولها فهو أمر آخر، يحتاج إلى دليل آخر.

فإذا كانت القراءات متفقة على صيغة واحدة ومضمون واحد فلا إشكال، وإذا اختلفت القراءات واستلزم اختلافها الاختلاف في الحكم فلابد من التماس دليل يدل على جواز الاستدلال بها عليه، ومع عدمه يرجع إلى الأصول.

ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ41 بتشديد الطاء تارة، وتخفيفها أخرى، فعلى قراءة التخفيف يكون المراد: حتى حصول النقاء، فيجوز قربهن حين النقاء ولو قبل الاغتسال. وعلى قراءة التشديد: لا تحصل الطهارة إلا بالاغتسال، فلا يجوز قربهن إلا بعده، ولا يجوز بمجرد النقاء.

ولم أر من استدل بجواز القراءة على جواز الحكم، بل ديدن الفقهاء على الاستدلال على جواز الحكم بأدلة أخرى غير أدلة جواز القراءة، مما يكشف عن أنهم يرون أن جواز القراءة لا يستلزم جواز الاستدلال بها على الحكم، ولهذا البحث مجال آخر، فليطلب من مظانه في الكتب الفقهية، والحمد لله رب العالمين.

* بحوث في تاريخ القرآن وعلومه، آية الله السيد أبو الفضل مير محمدي الزرندي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، ص164-176.


1- ذكرى الشيعة: كتاب الصلاة الواجب الرابع.
2- إيضاح الفرائد للتنكابني: ج 1 ص 193.
3- تفسير البيان للإمام الخوئي: ص 92 نقلا عن البعض.
4- أبو شامة: هو شهاب الدين الشافعي المقري النحوي ، ولد بدمشق سنة 596 ه‍. وأتقن الفقه ، ودرس وأفتى ، وبرع في العربية ، وصنف شرحا للشاطبية ، توفي بدمشق سنة 665 ه‍. (راجع الكنى والألقاب للمحدث القمي رحمه الله).
5- نقله عنه ابن الجزري في النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 13.
6- إتحاف فضلاء البشر: ص 4.
7- نقله عنه ابن الجزري في النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 9.
8- النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 9.
9- إعجاز القرآن: ص 51.
10- نقله عنهما الآشتياني في بحر الفوائد في شرح الفرائد: ص 94.
11- نقله عنهما الآشتياني في بحر الفوائد في شرح الفرائد: ص 94.
12- القوانين: ج 1 ص 390.
13- القارعة:5.
14- البقرة:20.
15- المزمل:6.
16- البقرة: 6.
17- إملاء ما من به الرحمن لأبي البقاء العكبري: ص 14.
18- النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 7 و 9.
19- النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 7 و 9.
20- نقله عنه السيوطي في الإتقان: ج 1 ص 82.
21- تفسير البيان: ص 137.
22- نقله عنهم السيوطي في الإتقان: ج 1 ص 82.
23- تفسير مجمع البيان: ج 1 ص 12 الفن الثاني.
24- منتهى المطلب: ص 274 كتاب الصلاة باب القراءة.
25- ذكرى الشيعة: كتاب الصلاة الواجب الرابع.
26- نقله عنه صاحب جواهر الكلام: باب القراءة.
27- ص 166 من هذا الكتاب.
28- المغني في الفقه: ج 1 ص 534 ، وقال شارحه: قال أبو بكر بن عياش: قراءة حمزة بدعة.
29- راجع كتاب سيبويه: ج 2 ص 308.
30- القائل هو القاضي أبو سعيد فرج بن لب الأندلسي ، راجع مناهل العرفان: ج 1 ص 428.
31- راجع نفس المصدر: ص 429.
32- الكافي: ج 2 ص 630 باب النوادر من كتاب فضل القرآن ح 12.
33- راجع وسائل الشيعة: ج 4 ص 821 – 895 من كتاب الصلاة.
34- وسائل الشيعة: ج 4 ص 821 ب 74 من أبواب القراءة ح 3 و2 و1.
35- وسائل الشيعة: ج 4 ص 821 ب 74 من أبواب القراءة ح 3 و2 و1.
36- وسائل الشيعة: ج 4 ص 821 ب 74 من أبواب القراءة ح 3 و2 و1.
37- تفسير البيان: ص 95.
38- النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 155.
39- منتهى المطلب: ص 274 كتاب الصلاة باب القراءة.
40- البقرة: 222.
41- تجريد الاعتقاد للشيخ نصير الدين الطوسي: بحث النبوة.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *