التفسير بالرأي

واما الذي هابه اهل الظاهر, وزعموا من التكلم في معاني القرآن تفسيرا بالراي، فيجب الاحتراز منه، فهو مما اشتبه عليهم امره، و لم يمعنوا النظر في فحواه امعانا.

ولا بد ان نذكر نص الحديث اولا, ثم النظر في محتواه:1.

1- روى ابو جعفر الصدوق باسناده عن الامام امير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: قال اللّه ـ جل جلاله ـ: “ما آمن بي من فسر برأيه كلامي2.
2- وايضا روي عنه عليه السلام قال ـ لمدعي التناقض في القرآن ـ: “اياك ان تفسر القرآن برايك، حتى تفقهه عن العلماء فانه رب تنزيل يشبه بكلام البشر, وهو كلام اللّه، وتاويله لا يشبه كلام البشر3.
3- وايضا عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال لعلي بن محمد بن الجهم: “لا تؤول كتاب اللّه ـ عز و جل ـبرايك، فان اللّه ـ عز و جل ـ يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ4.
4
– وروى ابو النضر محمد بن مسعود العياشي باسناده عن الامام ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال: “من فسرالقرآن برأيه فاصاب لم يؤجر, وان اخطأ كان اثمه عليه“, وفي رواية اخرى: “وان اخطأ فهو ابعد من السماء5.

5- وروى الشهيد السعيد زين الدين العاملي، مرفوعا الى النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من قال في القرآن بغير علم فليتبوأمقعده من النار“, وقال: “من تكلم في القرآن برأيه فاصاب فقد اخطأ“, وقال: “من قال في القرآن بغير ما علم،جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار”, وقال: “اكثر ما اخاف على امتي من بعدي، رجل يناول القرآن، يضعه على غير مواضعه6.

واخرج ابو جعفر محمد بن جرير الطبري باسناده عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم: “من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار“.

وفي رواية اخرى: “من قال في القرآن برأيه او بما لا يعلم…”.

وايضا عنه: “من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار“.

وايضا: “من تكلم في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار“.

وباسناده عن جندب عنه صلى الله عليه وآله سلم: “من قال في القرآن برأيه فاصاب فقد اخطأ7.

وخص الطبري هذه الاحاديث بالاي التي لا سبيل الى العلم بتاويلها الا ببيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, مثل تاويل ما فيه من وجوه امره: واجبه وندبه وارشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقاديراللازم بعض خلقه لبعض، وما اشبه ذلك من احكام آيه التي لم يدرك علمها الا ببيان الرسول لامته، وهذا وجه لا يجوز لاحد القول فيه الا ببيان الرسول له بتاويله، بنص منه عليه، او بدلالة نصبها دالة امته على تاويله.

قال: وهذه الاخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا: من ان ما كان من تاويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه الابنص بيان الرسول او بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لاحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه وان اصاب الحق فيه فمخطئ فيما كان من فعله، بقيله فيه برأيه، لان اصابته ليست اصابة موقن انه محق، وانما هواصابة خارص وظان، والقائل في دين اللّه بالظن قائل على اللّه ما لم يعلم، لان قيله فيه برأيه ليس بقيل عالم، ان الذي قال فيه من قول حق وصواب، فهو قائل على اللّه ما لا يعلم، آثم بفعله ما قد نهى عنه وحظر عليه8.

قلت: وهذا يعني العمومات الواردة في القرآن، الوارد تخصيصاتها في السنة ببيان الرسول، مثل قوله:﴿أَقِيمُواْ الصَّلاةَ9 و﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ10 و﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت11ونحو ذلك مما ورد في القرآن عاما, واوكل بيان تفاصيلها وشرائطها واحكامها الى بيان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجوز شرح تفاصيلها الا عن اثر صحيح وهذا حق، غير ان حديث المنع غير ناظر الى خصوص ذلك.

وروى الترمذي باسناده الى ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: “اتقوا الحديث علي الا ما علمتم، فمن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار, ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار12.

قال ابن الانباري: فسر حديث ابن عباس تفسيرين:

احدهما: من قال في مشكل القرآن بما لايعرف من مذهب الاوائل من الصحابة والتابعين، فهو متعرض لسخط اللّه.
والآخر: ـ وهو اثبت القولين واصحهما معنى ـ من قال في القرآن قولا يعلم ان الحق غيره، فليتبوأ مقعده من النار.

وقال: واما حديث جندب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من قال في القرآن برأيه فاصاب فقد اخطأ13، فحمل بعض اهل العلم هذا الحديث على ان الراي معنى به الهوى من قال في القرآن قولا يوافق هواه، لم ياخذه عن ائمة السلف، فاصاب فقد اخطأ, لحكمه على القرآن بما لايعرف اصله، ولا يقف على مذاهب اهل الاثر والنقل فيه.

وقال ابن عطية: “ومعنى هذا ان يسال الرجل عن معنى في كتاب اللّه عز و جل، فيتسور عليه برأيه14 دون نظر فيما قال العلماء, واقتضته قوانين العلم كالنحو والاصول وليس يدخل في هذا الحديث، ان يفسر اللغويون لغته، والنحويون نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر, فان القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رايه”.

قال القرطبي ـ تعقيبا على هذا الكلام ـ: هذا صحيح، وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء, فان من قال في القرآن بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالاصول فهو مخطئ، وان من استنبط معناه بحمله على الاصول المحكمة المتفق على معناها, فهو ممدوح.

وقال بعض العلماء: ان التفسير موقوف على السماع، للامر برده الى اللّه والرسول15.

قال: وهذا فاسد, لان النهي عن تفسير القرآن لايخلو: اما ان يكون المراد به الاقتصار على النقل والسماع وترك الاستنباط, او المراد به امرا آخر وباطل ان يكون المراد به ان لا يتكلم احد في القرآن الا بما سمعه،فان الصحابة قد قراوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبى صلى الله عليه وآله وسلم وقد دعا لابن عباس: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التاويل” فان كان التاويل مسموعا كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك، وهذا بين لا اشكال فيه.

وانما النهي يحمل على احد وجهين
احدهما: ان يكون له في الشي راي، واليه ميل من طبعه وهواه، فيتناول القرآن على وفق رايه وهواه،ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الراي والهوى، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى.

وهذا النوع يكون تارة مع العلم، كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم ان ليس المراد بالاية ذلك، ولكن مقصوده ان يلبس على خصمه.

وتارة يكون مع الجهل، وذلك اذا كانت الاية محتملة، فيميل فهمه الى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسر برأيه، اي رايه حمله على ذلك التفسير, ولولا رايه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.

وتارة يكون له غرض صحيح، فيطلب له دليلا من القرآن، ويستدل عليه بما يعلم انه ما اريد به، كمن يدعو الى مجاهدة القلب القاسي، فيقول: قال اللّه تعالى:﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى16 ويشير الى قلبه، ويومئ الى انه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة، تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع، وهو ممنوع لانه قياس في اللغة، وذلك غير جائز وقد تستعمله الباطنية17 في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم الى مذاهبهم الباطلة، فينزلون القرآن على وفق رايهم و مذهبهم، على امور يعلمون قطعا انها غير مرادة.

فهذه الفنون احد وجهي المنع من التفسير بالراي.

الوجه الثاني: ان يتسارع الى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع و النقل، فيما يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الالفاظ المبهمة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف والاضمار والتقديم والتاخير فمن لم يحكم ظاهر التفسير, وبادر الى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالراي والنقل والسماع لا بد له منهما في ظاهر التفسير, اولا ليتقي بهما مواضع الغلط, ثم بعدذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم الا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول الى الباطن قبل احكام الظاهر, الا ترى ان قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا18 معناه: آية مبصرة فظلموا انفسهم بقتلها فالناظر الى الظاهر يظن ان الناقة كانت مبصرة، فهذا في الحذف والاضمار, وامثاله في القرآن كثير19.

وهذا الذي ذكره القرطبي وشرحه شرحا وافيا, هو الصحيح في معنى الحديث، واكثر العلماء عليه، بل وفي لحن الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤيد ارادة هذا المعنى، نظرا للاضافة في “رايه”, اي رايه الخاص،يحاول توجيهه بما يمكن من ظواهر القرآن حتى ولو استلزم تحريفا في كلامه تعالى فهذا لا يهمه القرآن، انما يهمه تبرير موقفه الخاص باتخاذ هذا الراي الذي يحاول اثباته باية وسيلة ممكنة فهذا في الاكثر مفتر على اللّه، مجادل في آيات اللّه.

فقد روى ابو جعفر محمد بن على بن بابويه الصدوق باسناده الى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمان بن سمرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: “لعن اللّه المجادلين في دين اللّه على لسان سبعين نبيا,و من جادل في آيات اللّه فقد كفر, ومن فسر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب، ومن افتى الناس بغير علم فلعنته ملائكة السماوات والارض، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها الى النار20.

وروى ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني باسناده الى الامام ابي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: “ما علمتم فقولوا, وما لم تعلموا فقولوا: اللّه اعلم ان الرجل لينتزع بالاية فيخر بها ابعد مابين السماء والارض21.

وكذا اذا استبد برأيه ولم يهتم باقوال السلف والماثور من احاديث كبار الائمة والعلماء من اهل البيت عليهم السلام وكذا سائر المراجع التفسيرية المعهودة، فان من استبد برأيه هلك، ومن ثم فانه ان اصاب احيانا فقد اخطأالطريق، ولم يؤجر.

روى ابو النضر محمد بن مسعود بن عياش باسناده الى الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: “من فسر القرآن برأيه، ان اصاب لم يؤجر, وان اخطأ فهو ابعد من السماء22، الى غيرهامن احاديث يستشف منها ان السر في منع التفسير بالراي امران:

احدهما: التفسير لغرض المرا والغلبة والجدال وهذا انما يعمد الى دعم نظرته وتحكيم رايه الخاص، بمايجده من آيات متشابهة صالحة للتاويل الى مطلوبه، ان صحيحا او فاسدا, غير ان الاية لا تهدف ذلك لولا الالتواء بها في ذلك الاتجاه، ولذلك فانه حتى لو اصاب في المعنى لم يؤجر, لانه لم يقصد تفسير القرآن، وانما استهدف نصرة مذهبه ايا كانت الوسيلة.

وهذا ناظر في الاكثر الى الايات المتشابهة لغرض تاويلها, فالنهي انما عن التاويل غير المستند الى دليل قاطع ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ23.

ثانيهما: التفسير من غير استناد الى اصل ركين، اعتمادا على ظاهر التعبير محضا, فان هذا هو من القول بلا علم، وهو ممقوت لا محالة، ولا سيما في مثل كتاب اللّه الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه و من ثم فانه ايضا غير ماجور على عمله حتى ولو اصاب المعنى، لانه اورد امرا خطيرا من غير مورده، والاكثر الغالب في مثله الخطا والضلال، وافتراء على اللّه، وهو عظيم.

وقد اسلفنا كلام الراغب وشرحه بهذا الشان24، وكذا ما ذكره الزركشي في هذا الباب25، وقد كان كلامهما وافيا بجوانب الموضوع، لم يختلف عما ذكرناه هنا, فراجع.

ولكن نقل جلال الدين السيوطي عن ابن النقيب محمد بن سليمان البلخي26 في مقدمة تفسيره:

ان جملة ما تحصل في معنى الحديث خمسة اقوال:

احدها: التفسير من غير حصول العلوم، التي يجوز معها التفسير.
ثانيها: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه الا اللّه.
ثالثها: التفسير المقرر للمذهب الفاسد, بان يجعل المذهب اصلا والتفسير تابعا,فيرد اليه باي طريق امكن، وان كان ضعيفا.
رابعها: التفسير بان مراد اللّه كذا على القطع من غير دليل.
خامسها: التفسير بالاستحسان والهوى27.
قلت: ويمكن ارجاع هذه الوجوه الخمسة الى نفس الوجهين اللذين ذكرناهما, اذ الخامس يرجع الى الثالث، والرابع والثاني يرجعان الى الاول، فتدبر.

خلاصة القول في التفسير بالراي
يتلخص القول في تفسير حديث “من فسر القرآن برأيه”: ان الشي المذموم او الممنوع شرعا, الذي استهدفه هذا الحديث، امران

احدهما: ان يعمد قوم الى آية قرآنية، فيحاولوا تطبيقها على ما قصدوه من راي اوعقيدة، او مذهب او مسلك، تبريرا لما اختاروه في هذا السبيل، او تمويها على العامة في تحميل مذاهبهم او عقائدهم، تعبيرا على البسطاء الضعفاء.

وهذا قد جعل القرآن وسيلة لانجاح مقصوده بالذات، ولم يهدف تفسير القرآن في شيء وهذا هو الذي عنى بقوله عليه السلام: فقد خر بوجهه ابعد من السماء, او فليتبوأ مقعده من النار.

وثانيهما: الاستبداد بالراي في تفسير القرآن، محايدا طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام، ولا سيما كلامه تعالى فان للوصول الى مراده تعالى من كلامه وسائل وطرقا, منها: مراجعة كلام السلف، والوقوف على الاثار الواردة حول الايات، وملاحظة اسباب النزول، وغير ذلك من شرائط يجب توفرها في مفسر القرآن الكريم فاغفال ذلك كله، والاعتماد على الفهم الخاص، مخالف لطريقة السلف والخلف في هذا الباب ومن استبد برأيه هلك، ومن قال على اللّه بغير علم فقد ضل سوا السبيل، ومن ثم فانه قد اخطأ وان اصاب الواقع ـ فرضا او صدفة ـ لانه اخطأ الطريق، وسلك غير مسلكه المستقيم.

قال سيدنا الاستاذ الامام الخوئي رضوان الله عليه: ان الاخذ بظاهر اللفظ, مستندا الى قواعد واصول يتداولها العرف في محاوراتهم، ليس من التفسير بالراي، و انما هو تفسير بحسب ما يفهمه العرف، وبحسب ما تدل عليه القرائن المتصلة والمنفصلة، والى ذلك اشار الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بقوله: “انما هلك الناس في المتشابه، لانهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تاويلا من عند انفسهم برأيهم، استغنوا بذلك عن مسالة الاوصياء فيعرفونهم”.

قال: ويحتمل ان معنى التفسير بالراي، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الائمة عليهم السلام مع انهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك، ولزوم الانتهاء اليهم فاذا عمل الانسان بالعموم اوالاطلاق الوارد في الكتاب، ولم ياخذ التخصيص او التقييد الوارد عن الائمة عليهم السلام كان هذا من التفسير بالراي.

وعلى الجملة، حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة، من الكتاب والسنة او الدليل العقلي، لا يعد من التفسير بالراي، بل ولا من التفسير نفسه28.

قلت: وعبارته الاخيرة اشارة الى ان الاخذ بظاهر اللفظ, مستندا الى دليل الوضع اوالعموم او الاطلاق، او قرائن حالية او مقالية ونحو ذلك، لا يكون تفسيرا, اذ لا تعقيدفي اللفظ حتى يكون حله تفسيرا, وانما هو جري على المتعارف المعهود, في متفاهم الاعراف.

اذ قد عرفت ان التفسير, هو: كشف القناع عن اللفظ المشكل، ولا اشكال حيث وجود اصالة الحقيقة او اصالة الاطلاق او العموم، او غيرها من اصول لفظية معهودة.

نعم اذا وقع هناك اشكال في اللفظ, بحيث ابهم المعنى ابهاما, وذلك لاسباب وعوامل قد تدعو ابهاما او اجمالا في لفظ القرآن، فيخفى المراد في ظاهرالتعبير, فعند ذلك تقع الحاجة الى التفسير ورفع هذا التعقيد.

والتفسير ـ في هكذا موارد ـ لا يمكن بمجرد اللجوء الى تلكم الاصول المقررة لكشف مرادات المتكلمين حسب المتعارف، اذ له طرق ووسائل خاصة غير مايتعارفه العقلاء في فهم معاني الكلام العادي، على ما ياتي في كلام السيد الطباطبائي.

والتفسير بالراي المذموم عقلا والممنوع شرعا, انما يعني هكذا موارد متشابهة اومتوغلة في الابهام، فلا رابط ـ ظاهرا ـ لما ذكره سيدنا الاستاذ, مع موضوع البحث، وعبارته الاخيرة ربما تشي بذلك.

وقال سيدنا العلامة الطباطبائي: “الاضافة ـ في قوله: برأيه ـ تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال، بان يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الاسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس،فان قطعة من الكلام من اى متكلم اذا ورد علينا, لم نلبث دون ان نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المرادالكلامي، ونحكم بذلك انه اراد كذا, كما نجري عليه في الاقارير والشهادات وغيرهما كل ذلك لكون بياننا مبنيا على ما نعلمه من اللغة، ونعهده من مصاديق الكلمات، حقيقة ومجازا.

والبيان القرآني غير جار هذا المجرى، بل هو كلام موصول بعضها ببعض، في حين انه مفصول، ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما قاله علي عليه السلام.

فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة باعمال القواعد المقررة، دون ان يتعاهد جميع الايات المناسبة لها, ويجتهد في التدبر فيها.

فالتفسير بالراي المنهى عنه امر راجع الى طريق الكشف دون المكشوف فالنهي انما هو عن تفهم كلامه تعالى على نحو ما يتفهم به كلام غيره، حتى ولو صادف الواقع، اذ على فرض الاصابة يكون الخطا في الطريق.

قال: ويؤيد هذا المعنى، ما كان عليه الامر في زمن النبى صلى الله عليه وآله وسلم فان القرآن لم يكن مؤلفا بعد, ولم يكن منه الاسور او آيات متفرقة في ايدي الناس، فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.

قال: والمحصل ان المنهي عنه انما هو الاستقلال في تفسير القرآن، واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع الى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع اليه.

قال: وهذا الغير ـ لا محالة ـ اما هو الكتاب او السنة وكونه هي السنة، ينافي كون القرآن هو المرجع في تبيان كل شي، وكذا السنة الامرة بالرجوع الى القرآن عند التباس الامور, وعرض الحديث عليه لتمييز صحيحه عن سقيمه، فلم يبق للمراجعة والاستمداد في تفسير القرآن سوى نفس القرآن فان القرآن يفسر بعضه بعضا, وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض29.

وهذا الذي ذكره سيدنا العلامة ـ هنا ـ تحقيق عريق بشان طريقة فهم معاني كلامه تعالى.

قال ـ في مقدمة التفسير
ان الاتكال والاعتماد على الانس والعادة في فهم معاني الايات، يشوش على الفاهم سبيله الى ادراك مقاصدالقرآن، اذ كلامه تعالى ناشئ من ذاته المقدسة، التي لا مثيل لها ولا نظير﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ, 30﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ31، ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ32.

وهذا هو الذي دعا بالنابهين ان لا يقتصروا على الفهم المتعارف لمعاني الايات الكريمة، واجازوا لانفسهم الاعتماد ـ لادراك حقائق القرآن ـ على البحث والنظر والاجتهاد.

وذلك على وجهين: اما بحثا علميا او فلسفيا او غيرهما, للوصول الى مراده تعالى في آية من الايات، وذلك بعرض الاية على ما توصل اليه العلم او الفلسفة من نظريات او فرضيات مقطوع بها, وربما المظنون منها ظناً راجحا, وهذه طريقة يرفضها ملامح القرآن الكريم.

واما بمراجعة ذات القرآن، واستيضاح فحوى آية من نظيرتها, وبالتدبر في نفس القرآن الكريم، فان القرآن ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما قال على عليه السلام.

قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْء33، وحاشا القرآن ان يكون تبيانا لكل شي ولا يكون تبيانا لنفسه، وقد نزل القرآن ليكون هدى للناس ونورا مبينا وبينة وفرقانا, فكيف لا يكون هاديا للناس الى معالمه ومرشدا لهم على دلائله؟! وقد قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا34، واى جهاد اعظم من بذل الجهد في سبيل فهم كتاب اللّه، واستنباط معانيه واستخراج لالئه نعم،القرآن هو اهدى سبيل الى نفسه، لا شي اهدى منه اليه.

وهذه هي الطريقة التي سلكها النبي وعترته الاطهارـ صلوات اللّه عليهم ـ في تفسير القرآن والكشف عن حقائقه ـ على ما وصل الينا من دلائلهم في التفسير ـ ولا يوجد مورد واحد استعانوا لفهم آية، على حجة نظريه عقلية او فرضية علمية، ونحو ذلك35.

وتوضيحا لما افاده سيدنا العلامة في هذا المجال، نعرض ما يلي

كان للبيان القرآني اسلوبه الخاص في التعبير والاداء, ممتازا على سائر الاساليب، ومختلفا عن سائر البيان، مما يبدو طبيعيا, شان كل صاحب فن جديد كان قد اتى بشي جديد.

ومن ثم كان للقرآن لغته الخاصة به، ولسانه الذي يتكلم به، ولهجته التي يلهج بها, ممتازة عن سائر اللهجات.

نعم، ان للقرآن مصطلحات في تعابيره عن مقاصده ومراميه، كانت تخصه، ولا تعرف مصطلحاته الا من قبل نفسه، شان كل صاحب اصطلاح.

ومن المعلوم ان الوقوف على مصطلحات اى فن من الفنون، لا يمكن بالرجوع الى اللغة وقواعدها, ولا الى الاصول المقررة لفهم الكلام في الاعراف، لانها اعراف عامة، وهذا عرف خاص فمن رام الوقوف على مصطلحات علم النحو ـ مثلا ـ فلا بد من الرجوع الى النحاة انفسهم لا غيرهم، وهكذا سائر العلوم و الفنون من ذوي المصطلحات.

ومن ثم فان القرآن هو الذي يفسر بعضه بعضا, و ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض.

نعم يختص ذلك بالتعابير ذوات الاصطلاح، وليس في مطلق تعابيره التي جات وفق العرف العام.

وبعبارة اخرى: ليس كل تعابير القرآن مما لا يفهم الا من قبله، انما تلك التعابير التي جاءت وفق مصطلحه الخاص، وكانت تحمل معاني غير معاني سائر الكلام اما التي جاءت وفق اللغة او العرف العام، فطريق فهمها هي اللغة والاصول المقررة عرفيا لفهم الكلام.

وبعبارة ثالثة: الحاجة الى عرفان مصطلحات القرآن، انما تكون في موارد التفسير, حيث الغموض والابهام في ظاهر التعبير, دون ترجمة الالفاظ والكلمات، وادراك مفاهيم الكلام وفق الاعراف العامة، مما يعود الى البحث عن حجية الظواهر, فانها حجة بلا كلام، سواء في القرآن ام في غيره، سواء بسواء.

وهذا غير المبحوث عنه هنا, حيث خفاء المراد وراء ستار اللفظ, المعبر عنه بالبطن المختفي خلف الظهرفالظهرلعامة الناس حيث متفاهمهم، ويكون حجة لهم ومستندا يستندون اليه في التكليف، اما البطن فللخاصة ممن يتعمقون في خفايا الاسرار, ويستخرجون الخبايا من وراء الستار.

ومن ثم كان المطلوب من الامة (العلماء والائمة) التفكر في الايات والتدبر فيها, وتعقلها ومعرفتها حق المعرفة.

قال تعالى:﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ36.

قال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا37.

وقال: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَاب38.

وقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: “له ظهر و بطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، فان التفكر حياة قلب البصير39.

قال العلامة الفيلسوف ابن رشد الاندلسي: “وقد سلك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا ينتفع به الجمهور, ويخضع له العلماء ومن ثم جاء بتعابير يفهمها كل من الصنفين: الجمهور ياخذون بظاهر المثال، فيتصورون عن الممثل له ما يشاكل الممثل به، ويقتنعون بذلك والعلماء يعرفون الحقيقة التي جاءت في طى المثال”40.

واليك بعض الامثلة، شاهدا لما ذكره سيدنا العلامة
قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ41.

هذا خطاب عام يشمل كافة الذين آمنوا, يدعوهم الى الايمان الصادق والاستجابة ـعقيدة وعملا ـ لدعوة الاسلام، والاستسلام العام للشريعة الغراء, اذ في ذلك حياة القلب، والطمانينة في العيش، وادراك لذائذ نعمة الوجود.

اما الحائد عن طريقة الدين والمخالف لمناهج الشريعة، فانه في قلق من الحياة، يعيش مضطربا قد سلبت راحته كوارث الدهر, يخشى مفاجئتها في كل لحظة واوان.

واما المتكل على اللّه، فهو آمن في الحياة، يداوم مسيرته، فارغ البال في كنفه تعالى﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ42، ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ43.

هذا تفسير الدعوة الى ما فيه الحياة، ولعله ظاهر لا غبار عليه.

واما قوله تعالى ـ بعد ذلك ـ:﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه44فيعلوه غبار ابهام، اذيبدو انه تهديد باولئك الحائدين عن جادة الحق، ان سوف يجازون بحيلولة بينهم وبين انفسهم.

والسؤال: كيف هذه الحيلولة، وما وجه كونها عقوبة متقابلة مع نبذ احكام الشريعة؟

وللاجابة على هذا السؤال وقع اختلاف عنيف بين اهل الجبر واصحاب القول بالاختيار, كما تناوشها كل من الاشاعرة واهل الاعتزال، كل يجر النار الى قرصه، كما اختلف ارباب التفسيرعلى وجوه .

والذي رجحناه في تاويل الاية، هو معنى غير ما ذكره جل المفسرين، استفدناه من مواضع من القرآن نفسه:ان هذه الحيلولة كناية عن اماتة القلب، فلا يعي شيئا بعد فقد الحياة.

لا تعجبن الجهول حلته          فذاك ميت وثوبه الكفن.

الاسلام دعوة الى الحياة، وفي رفضها رفض للحياة، تلك الحياة المنبعثة عن ادراكات نبيلة، والملهمة للانسان شعورا فى رضا يسعد به في الحياة، وتحظى بكرامته الانسانية العليا.

اما اذا عاكس فطرته واطاح بحظه، فانه سوف يشقى في الحياة، ولم يزل يسعى في ظلمات غيه وجهله﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ45.

فالانسان التائه في ظلمات غيه قد فقد شعوره، وافتقد كرامته العليا في الحياة، فهذا قد نسي نفسه و ذهل عن كونه انسانا, يحسب من نفسه موجودا ذا حياة بهيمية سفلى، انما يسعى وراء نهمه و شبع بطنه، لا هدف له في الحياة سواه.

وهذا التسافل في الحياة كانت نتيجة تساهله بشان نفسه واهمال جانب كرامته، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ46، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ47.

فان نسيان النفس كناية عن الابتعاد عن معالم الانسانية والشرف التليد﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ48.

وقال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا49.

اختلف الفقهاء في موضع القطع من يد السارق، حيث الابهام في ذات اليد, انها من الكتف ام من المرفق ام الساعد ام الكرسوع (طرف الزند) ام الاشاجع (اصول الاصابع)؟

روى ابو النضر العياشي في تفسيره بالاسناد الى زرقان صاحب ابن ابي داود, قاضي القضاة ببغداد, قال: اتي بسارق الى المعتصم و قد اقر بالسرقة، فسال الخليفة تطهيره باقامة الحد, فجمع الفقهاء يستفتيهم في اقامة حد السارق عليه، وكان ممن احضر محمد بن علي الجواد عليه السلام, فسالهم عن موضع القطع.

فقال ابن ابي داود: من الكرسوع، استنادا الى آية التيمم، حيث المراد من اليد في ضربتيه هو الكف، ووافقه قوم و قال آخرون: من المرفق، استنادا الى آية الوضؤء.

فالتفت الخليفة الى الامام الجواد يستعلم رايه، فاستعفاه الامام، فابى و اقسم عليه ان يخبره برأيه.

فقال عليه السلام: اما اذا اقسمت علي باللّه، اني اقول: انهم اخطأوا فيه السنة، فان القطع يجب ان يكون من مفصل اصول الاصابع، فيترك الكف.

قال المعتصم: وما الحجة في ذلك؟

قال الامام: قول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: السجود على سبعة اعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فاذا قطعت يده من الكرسوع او المرفق، لم يبق له يد يسجد عليها, وقد قال اللّه تعالى:﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ50 يعني به هذه الاعضاء السبعة التي يسجد عليها ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا51، وما كان للّه لم يقطع.

فاعجب المعتصم هذا الاستنتاج البديع، وامر بالقطع من الاشاجع52.

انظر الى هذه الالتفاتة الرقيقة، يجعل من آية المساجد, بتاويل ظاهرها (هي المعابد) الى باطنها (الشمول لما يسجد به، اي يتحقق به السجود), منضمة الى كلام الرسول في بيان مواضع السجدة، يجعل من ذلك كله دليلا على تفسير آية القطع و تعيين موضعه، بهذا النمط البديع.

وقد استظهر عليه السلام من الاية ان راحة الكف، و هي من مواضع السجود, كانت للّه، فلا تشملها عقوبة الحد، فان راحة الكف موضع السجود للّه.

وللاستاذ الذهبي ـ هنا ـ محاولة غريبة يجعل من التفسير بالراي قسمين: قسما جائزا وممدوحا, وآخرمذموما غير جائز وحاول تاويل حديث المنع الى القسم المذموم.

قال: والمراد بالراي هنا الاجتهاد, وعليه فالتفسير بالراي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد, بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للالفاظ العربية ووجوه دلالتها, واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي، ووقوفه على اسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الادوات التي يحتاج اليها المفسر.

قال: واختلف العلماء قديما في جواز تفسير القرآن بالراي، فقوم تشددوا في ذلك ولم يجيزوه، وقوم كان موقفهم على العكس فلم يروا باسا من ان يفسروا القرآن باجتهادهم، والفريقان على طرفي نقيض فيما يبدو, وكل يعزز رايه بالادلة والبراهين.

ثم جعل يسرد ادلة لكل من الفريقين، ويجيب عليها واحدة واحدة باسهاب، واخيرا قال: ولكن لو رجعنا الى ادلة الفريقين وحللنا ادلتهم تحليلا دقيقا, لظهر لنا ان الخلاف لفظي، وان الراي قسمان:

قسم جار على موافقة كلام العرب و مناحيهم في القول، مع موافقة الكتاب والسنة، ومراعاة سائر شروط التفسير, وهذا القسم جائز لا شك فيه.

وقسم غير جار على قوانين العربية، ولا موافقة للادلة الشرعية، ولا مستوف لشرائط التفسير, وهذا هو موردالنهي ومحط الذم53.

قلت: اما تورع بعض السلف عن القول في القرآن، فلعدم ثقته بذات نفسه وقلة معرفته بمعاني كلام اللّه اما العلماء العارفون بمرامي الشريعة، فكانوا يتصدون للتفسير عن جراة علمية واحاطة شاملة لجوانب معاني القرآن.

واما التفسير بالراي فامر وقع المنع منه على اطلاقه، وليس على قسم منه، كما زعمه هذا الاستاذ.

والذي اوقعه في هذا الوهم، انه حسب التفسير بالراي هنا بمعنى الاجتهاد, في مقابلة التفسير بالماثور, ولا شك من جواز الاجتهاد في استنباط معاني الايات الكريمة ان وقع عن طريقه المالوف.

*التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب،الشيخ محمد هادي معرفة، الجامعة الرضوية للعلوم الاسلامية، ط1، ص60-82.


1- مما اورده العلامة المجلسي في بحار الانوار, كتاب القرآن، باب /10, ج89، ص 107 ـ112, (ط بيروت ).
2- الامالي للصدوق (ط نجف ), ص 6, المجلس الثاني.
3- كتاب التوحيد, للصدوق، باب 36, الرد على الثنوية و الزنادقة، ص 264, (ط بيروت ).
4- عيون الاخبار, للصدوق، (ط نجف ) ج1، ص 153, باب 14, ج1، آل عمران:7.
5- مقدمة تفسير العياشي، ج1، ص 17, رقم2 و4.
6- بحار الانوار, ج89، ص 111 ـ 112, رقم20 عن آداب المتعلمين، للشهيد, ص 216 ـ217.
7- تفسير الطبري، ج1، ص 27.
8- تفسير الطبري، ج1، ص 25 ـ 26 و27.
9- الأنعام:72
10- البقرة:43
11- آل عمران:97
12- قال ابو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن الجامع، ج5، ص 199, كتاب التفسير, باب 1,رقم2951.
13- جامع الترمذي، ج5، ص 200, رقم2952.
14- تسور الحائط: هجم عليه هجوم اللص و تسلقه و يعني به هنا: التهجم والاقدام بغير بصيرة و لا وعي.
15- في الاية رقم 59 من سورة النساء.
16- طه:24.
17- من اهل التصوف.
18- الاسراء:59.
19- راجع: تفسير القرطبي، ج1، ص 32 ـ 34.
20- كمال الدين للصدوق، ج1، ص 256 ـ 257, ب 24, رقم1 و عبد الرحمان بن سمرة بن حبيب العبشمي صحابي جليل، اسلم يوم الفتح وشهد غزوة تبوك مع النبى صلى الله عليه وآله وسلم ثم شهدفتوح العراق، و هو الذي افتتح سجستان و غيرها في خلافة عثمان ثم نزل البصرة وكان يحدث بها روى عنه خلق كثير من التابعين توفي سنة (50) (الاصابة، ج2، ص 401,رقم5134 ).
21- الكافي الشريف، ج1، (الاصول ), ص 24, رقم4.
22- تفسير العياشي، ج1، ص 17, رقم4.
23- آل عمران:7.
24- ص 49 و راجع: مقدمته في التفسير, ص 93.
25- ص 54 و راجع: البرهان، ج2، ص 164 ـ 168.
26- توفي سنة 698.
27- الاتقان في علوم القرآن، ج4، ص 191.
28- البيان، ص 287 ـ 288.
29- تفسير الميزان، ج3، ص 77 ـ 79, و راجع: ج1، ص 10 ايضا.
30- الشورى:11.
31- الانعام:103.
32- الصافات:159.
33- النحل:89.
34- العنكبوت:69.
35- الميزان، ج1، ص 9 ـ 10.
36- النحل:44.
37- محمد:24.
38- ص:29.
39- مقدمة تفسير الميزان، ج1، ص 10 والكافي الشريف، ج2، ص 599.
40- راجع: رسالته (الكشف عن مناهج الادلة ), ص 97.
41- الانفال:24.
42- الطلاق:3.
43- الرعد:28.
44- الانفال:24.
45- البقرة:257.
46- الانعام:110.
47- الحشر:19.
48- الاعراف:176.
49- الجن:18
50- المائدة:38.
51- الجن:18.
52- تفسير العياشي، ج1، ص 319 ـ 320.
53- التفسير والمفسرون، ج1، ص 255وص 264.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *